أين عنوانكم يا أهل السنة في العراق؟
د. مثنى عبدالله
January 12, 2015
لقد أفرز الاحتلال واقعا جديدا في العراق هو واقع المكونات والطوائف، ولأن النظام السياسي الذي نتج قام أصلا على هذه الفكرة، فقد بات على الجميع تقديم قيادات سياسية ضمن هذا الإطار، أي أن على كل طرف من هذه المسماة مكونات تقديم ممثليه الموصوفين طائفيا وعرقيا وليس وطنيا.
ولأن الاحتلال كان مشروعا قائما في أذهان وخطط من قاموا به، فإن البعض كان أصلا مندمجا فيه ويحمل عناوين سياسية ودينية طائفية وعرقية، فالاكراد كانوا طرفا بارزا فيه، وكانت لديهم قيادات تدعى للتمثيل في كل الاجتماعات التي كانت تعقد تحضيرا للغزو، كما أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، التي تدعي تمثيل الطائفة كانوا موجودين أيضا في هذا الجهد، لذلك عندما حصل الاحتلال ونشأ النظام السياسي الجديد، لم تكن لدى الاحزاب الكردية والاسلام السياسي الشيعي أي مشكلة في تقديم زعاماتها لشغل المناصب والمسؤوليات الجديده. لكن الطرف الوحيد الذي برزت لديه معضلة التمثيل الطائفي كانوا هم أهل السنة، لأسباب عديدة من أبرزها أن هذا الطيف الاجتماعي لم ينظر الى نفسه على أنه طائفة، لذلك لم يؤدلــــــج ذاته وينظـــــم قــــواه كي يكون محورا اجتماعيا وسياسيا خاصا في الوسط الاجتماعي والسياسي العراقــــي، وهذا هو سبب عدم بروز قيادات سياسية ودينية تتحدث باسمه وتنادي بخصوصــــياته. كمـــا أنه لم يكن أقلية في المحـــيط الاسلامي كي يأخذه قلق الأقليات الى التوحد في إطار مذهبي طائفي.
أما العامل الآخر فهو عدم وجود تمثيل مركزي واضح له في كل الفعاليات السياسية التي عُقدت للتنظير للغزو والاحتلال، وهذا نتيجة طبيعية للعوامل التي سبق ذكرها. صحيح أن بعض أهل السنة انتظموا في ما سُمي «المعارضة العراقية»، لكنهم لم يكونوا تيارا سياسيا طائفيا. كانوا علمانيين وليبراليين. هذا الواقع شكل أزمة لاحقة في مسألة التمثيل والعنوان لأهل السنة في النظام الجديد، الذي لم يكونوا مؤهلين كغيرهم للتعاطي معه، مما دفع بعض رموزهم الى تقليد ومحاكاة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، فتقدم الحزب الإسلامي العراقي ليطرح نفسه ممثلا لهذا الوسط، على اعتبار أن الحكم الجديد ديني طائفي وهو الأحق بتولي تمثيل السنة، وحصل القبول من المحتل، فكانت «جبهة التوافق» التي إئتلف فيها الحزب مع جهات سياسية من الطائفة نفسها. لكن المشكلة الكبرى التي واجهها الحزب الإسلامي العراقي، هو أنه فشل فشلا ذريعا في مسألة التمثيل، لأن سياسته كانت تتناغم مع سياسة المحتل، بينما الوسط الذي ادعى تمثيله كان بالضد تماما من تلك السياسة، فانفرط هذا التحالف وتشظى الى تحالفات جديدة، ادعت تمثيل هذا الطيف أيضا، لكنهم انغمسوا في سياسة الصفقات السياسية والتجارية مع الاحزاب الرئيسية الحاكمة، وتآمروا ضد الطائفة التي ادعوا تمثيلها سياسيا، فكانت مواقفهم مخزية، خاصة في عام الاعتصامات. أما في الجانب الديني فلا يمكن الحديث عن شخصيات مرجعية دينية بالمفهوم السائد لدى الآخرين، لان هذا الطيف لا يؤمن بالتقديس الشخصي ولا يستطيع الانتظام في منهج مذهبي واحد، ومع ذلك فقد حاول البعض بعد الاحتلال طرح نفسه كمرجعية دينية عليا لأهل السنة، حيث عاد أحدهم من خارج العراق وحضر خطيبا في أول جمعة بعد الغزو، لتثبيت نفسه مرجعية دينية، لكنه فشل بعد فترة وجيزة وعاد من حيث أتى، لينقلب ضدهم ويشتمهم من على منبر برنامج يُفتي فيه في إحدى القنوات الفضائية، بل تجرأ للقول بأن المالكي أفضل رئيس وزراء في تاريخ العراق، ثم طرح رئيس ما يسمى جماعة علماء العراق نفسه مرجعية دينية سنية، وكان لا يدع مناسبة تمر إلا وكال المديح فيها الى إيران وزعاماتها، ثم ترك أهله في محافظة البصرة يُذبحون على يد الميليشيات الطائفية، واستقر في المنطقة الخضراء ليصبح أحد مريدي رئيس الوزراء يفتي بالولاء له، رغم أنه أتى يوما على رأس وفد ديني واجتماعي من أهالي البصرة لتقديم البيعة والولاء للنظام السياسي السابق.
عام الاعتصامات في المحافظات العراقية أفرز لاهل السنة زعامات دينية أخرى لم يكن صوتها عاليا فيما سبق، أولهم هو الشيخ عبدالملك السعدي الذي أبلى بلاء حسنا في الدفاع عن حقوق العراقيين طيلة فترة الاعتصامات ثم اختفى، والشيخ رافع الرفاعي مفتي الديار العراقية، الذي هو الآخر كان صوتا جهوريا، لكن تحالفاته السياسية جعلت صوته غير مسموع مؤخرا، أما الشيخ مهدي الصميدعي مفتي أهل السنة، فقد اختار الرجل أن يكون في صف المالكي وبطانته منذ عودته الى العراق، حتى لم نكد نسمع له صوتا إلا صوت الضد من المعتصمين ومطالبهم، بل كان يعزو كل القتل والاعتقالات التي جرت ضد المعتصمين الى ما يسميه استفزازات المعتصمين للسلطة، وعندما أصبح هو ورئيس جماعة علماء العراق، باقتراح من السلطة، ممثلين عن أهل السنة في لجنة الحكماء، التي تبحث في قضايا النساء المعتقلات والسجناء الأبرياء، لم يستطع أن يكون ضمير العامة فغابت اللجنة وقضاياها ولم يعلم أحد شيئا عنها، ثم سمعنا الرجل مؤخرا في سجال سياسي مع الحزب الإسلامي العراقي، كل يتهم الآخر بذبح أهل السنة.
أما الطرف الأبرز في المعادلة الدينية السياسية لأهل السنة فهو هيئة علماء المسلمين في العراق، التي حرص القائمون عليها ومنذ وقت مبكر على إبعادها عن التمثيل السني والتمسك بالتمثيل الوطني الجامع، ثم عززت نجاحها هذا بأن اختارت طريق مقاومة الاحتلال وأعوانه ونتائجه السياسية بدون هوادة، فكانت الأقرب الى الهاجس الشعبي والشعور الوطني من بقية الاطراف الاخرى، لكن مبدئيتها وحساسيتها المفرطة تجاه الخوض في العمل السياسي لم يحجزا لها مكانا بارزا في المسرح السياسي المحلي والعربي والإقليمي، على الرغم من فاعليتها في ميدان المقاومة، كما أن افتقارها الى الشجاعة السياسية في كشف وفضح المتلاعبين والانتهازيين من أحزاب الاسلام السياسي السني، لم يجعل منها أداة ردع جماهيري ضد الآخرين. لقد أوقعها زهدها السياسي في ورطة التعويل على الاخرين ومواقفهم، حيث راهنت على بعض الرموز العشائرية والسياسية التي برزت مواقفها في عام الاعتصامات ودعمتهم وأيدتهم، لكنهم لم يكونوا يستحقون ذلك الدعم وتنصلوا عن التزاماتهم ومواقفهم وتحالفوا مع غيرهم، حيث كان يجب عليها أن تتصدى للعمل السياسي بوسائل السياسي وليس بوسائل رجل الدين، فالقضية العراقية هي مسألة سياسية يتطلب من الهيئة أن يكون لها فريقها السياسي الخاص بها، يقدم لها المشورة السياسية ويعزز من خطواتها في الميدان السياسي بموازاة خط سيرها المبدئي.
قد يكون أهل السنة في المفهوم العام طائفة من طوائف العراق، لكنهم اختاروا أن لا يكون لهم عنوان طائفي بل عنوان وطني يجمع العراقيين جميعا، وهذا هو قدرهم.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله