هل الرئاسات الثلاث هي السلطة الفعلية في العراق؟
د. مثنى عبدالله
July 6, 2015
■ تطالعنا بين الحين والآخر أنباء تشير إلى اجتماعات تضم الرئاسات الثــــلاث، لمناقشة بعض الأمور المهمة، التي تجري على الساحة العراقية.
ومفهوم الرئاسات الثلاث في هذا البلد يختلف جذريا عما يماثله في بلدان أخرى، فهي ليست مناصب حقيقية اقتضتها طبيعة النظام السياسي، بل هي مناصب قائمة على أساس حاكمية الطوائف والإثنيات، فكل منها يمثل وجودا معنويا وماديا لطائفة أو قومية، وليس مؤسسة ذات منهج وظيفي يخدم البلد.
وإذا كانت السلطة في المعنى السياسي تعني القدرة على التأثير الجمعي، فهي في ظل هذا التقسيم القائم، إنما تمثل القدرة على التأثيرالطائفي والإثني وليس الجمعي، بل أنها في الحقيقة لا تمارس حتى هذا الدور، على الرغم من أنه مرسوم لها، فالرئيس الكردي لا يعني إطلاقا أنه قادر على التأثير الجمعي على كل أكراد العراق، لأن الاحزاب الكردية ليست على قلب رجل واحد، مما يجعل الرئيس قادرا على التأثير ربما فقط على المستوى الحزبي، أي فقط على قيادات وقواعد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي أتى به إلى هذا المنصب، وليس بالضرورة بقية الاحزاب الكردية، لأنه لحد الان يوجد فصل كبير في منهجية عمل الحزبين الكرديين على المستوى الجغرافي والسياسي.
فحزب الاتحاد لديه السلطة الفعلية على مناطق جغرافية معينة، كما أن الحزب الديمقراطي الكردستاني لديه سيطرة مكانية على محافظات أخرى، وكل منهما لديه تحالفاته الدولية والاقليمية والمحلية التي تختلف عن الآخر.
ولو بحثنا في ما يمثله رئيس السلطة التنفيذية نجد أنه يمثل الشيعة، حسب عرف النظام السياسي القائم، وأنه يفترض أن تكون لديه قدرة التأثير الجمعي على الشيعة، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماما، فالطائفة مشتتة الاتجاهات والتوجهات ومرجعياتها السياسية والدينية ليست واحدة، وما يقوله ويفعله رئيس الوزراء ليس ملزما للجميع من الطائفة، بل حتى داخل الحزب الذي ينتمي إليه لا يوجد إجماع عليه، وأقرب مثال على ذلك، الجناح الذي يقوده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كما أن بعض الزعامات الدينية داخل الطائفة لديها سلطة التأثير الفعلي أكبر بكثير من سلطة رئيس الوزراء نفسه، ولهم معاقل جغرافية يسيطرون على مجالس محافظاتها.
وفي كثير من الاحيان ترفض هذه المجالس قرارات السلطة التنفيذية التي يقودها ممثلهم الرئاسي في العملية السياسية، بل حتى وزراؤهم لا يستطيعون التصويت في مجلس الوزراء على القرارات ومشاريع القوانين التي يدرسها المجلس في اجتماعاته قبل الحصول على موافقتهم. أما رئيس البرلمان الذي يمثل السنة في نظام المحاصصة الطائفية، فهو الآخر لا يؤثر في الحقيقة لا ماديا ولا معنويا على طائفته، بل يكاد يكون الحلقة الضعيفة في النظام، لأن طائفته ليس لديها كيان جغرافي وسياسي شبه مستقل كالاكراد، قادر على التأثــــير المادي والمعنوي في الفعل السياسي لسلطة المركز، كما ليـــس لديها ما لدى أحزاب الاسلام السياسي الشيعي من خطوط حمراء متفق على عدم تجـــاوزها بأي حال من الاحوال، وحتى المحافظات التي تشكل طائفـــته غالبية سكانها، ليس لديه السيطرة المكانية عليها، لأنها تحت ســـيطرة «تنظيم الدولة»، وحتى المحافظة التي تشكلت فيها قائمته الانتخـــابية خســـر فيهـــا قوة التأثير، بعد أن تم العبث بتركيبتها الديموغرافية.
ولو نظرنا إلى البنية السياسية للطائفة نجد أنه كلما امتد عمر العملية السياسية، تشظت البنية السياسية فيها أكثر، وتكاثرت فيها الرموز والكتل السياسية والعشائرية والدينية، حتى باتت تحوي طيفا واسعا من جميع المتناقضات، فالبعض أصبح في حلف مصيري مع الحزب الحاكم، وباتت وفوده تقوم بجولات مكوكية ما بين طهران والسفارة الايرانية في بغداد، والآخر وضع مصيره وربط حركته السياسية مع الاتراك والامريكان، حتى البعض من رجال الدين في الطائفة ذهبوا إلى تشكيل هيئات دينية تمثل أهل السنة، بعضها يوالي السلطة ويُسبّح بحمدها، وآخر معارض لها، حتى وصل الامر إلى تسييس هيئة الوقف السني التي يفترض فيها أن تكون بعيدة عن هذا التوجه، لأن عملها محدود بالاشراف على الجوامع والمراقد وإدارة شؤونهما.
السؤال المهم هنا هو إذا كان علم السياسة يُعرّف السلطة في إطارها السياسي بأنها القدرة على التأثير الجمعي، إذن وفي ضوء ما تقدم، هل السلطات الثلاث في العراق لديها هذه القدرة مجتمعة أو منفردة؟ يقينا لا، لأن النظام السياسي لم يُرسم على أساس وطني، بل على أسس طائفية وإثنية، أي أريد له ألا يكون قادرا على التأثير الجمعي، ومن أجل ذلك رأينا أن أول خطوة في هذا الاتجاه كانت حل الجيش العراقي ومؤسسات الدولة الاخرى، التي كانت تمثل وسائل تأثير جمعي بيد السلطة، ثم تم نزع الصفة الوطنية عن المناصب السيادية كي لا يكون لها تأثير نفسي وطني، بل تأثير طائفي حتى لو كان محدودا. وإذا كان كل من يأمر فيطاع هو واقعيا سلطة، فإننا في العراق أمام كم هائل من السلطات، فزعماء الكتل السياسية والميليشيات والاحزاب والقبائل والعشائر ورجال الدين، كلهم اليوم يدلون بدلوهم في الشأن السياسي فيقبلون ويرفضون ويصرحون ويفتون من مصالح ضيقة طائفية وإثنية وليست وطنية. وإذا كان النظام السياسي في العصر الحديث قد توصل إلى مبدأ فصل السلطات لمنع الاستبداد ولاغراض المراقبة والتصويب والتقويم، في ظل عملية متوازنة ودقيقة في إطار الدولة، فإن تعدد السلطات في النظام السياسي العراقي كان الهدف منه الحيلولة دون الوصول إلى إجماع وطني، والحيلولة دون المساءلة فيمن يُجرم ويسرق ويخون. كانت عملية مدروسة لإضاعة حقوق جميع العراقيين وتوزيع الفعل الجرمي بين جميع السلطات، لذلك لازلنا حتى اليوم نسمع عن لجان تحقق في خروقات وانتهاكات وجرائم وسرقات، لكن بدون التوصل إلى نتيجة. في ظل هذه الفوضى اللاأخلاقية تصبح حركة الدولة والمجتمع في مستوياتها الافقية والعمودية متناقضة ومتقاطعة ومتضادة، مع اختفاء خط الشروع الواحد في حركة المجتمع، وأن كل من يتصور أن هذه الفوضى كالزكام تنتهي من تلقاء نفسها فهو واهم، لأن البنية السياسية في النظام الحالي قتلت المضادات الحيوية الطبيعية للجسم العراقي، وبات أرضا خصبة لكل مرض جديد وغير مألوف سابقا، كما أن العافية لن تعود إلى هذا الجسد قريبا، لأن الخيار أصبح الان هو، إما استمرار القوى الطائفية الهزيلة أو قوى التطرف الاسلامي، وأن الدعم الدولي والاقليمي سيستمر للطرف الاول على حساب الشعب العراقي.، الذي اختار أن يكون غائبا تماما عن التأثير الفعلي.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله