دافيد غروسمان: بدل الاصرار على عدد وهوية سجناء حماس الذين سيطلقون مقابل اطلاق غلعاد شليط ، أربما يحسن أن تتوجه إسرائيل الان الى حماس باقتراح أوسع وأجرأ؟ اقتراح اتفاق تفاهمات يشتمل على هدنة مطلقة، ووقف جميع أعمال الارهاب من غزة وازالة الحصار عنها؟ اتفاق تكون قضية غلعاد شليط وسجناء حماس مادة واحدة منه، مادة تطبق اولا، مباشرة مع بدء التفاوض؟
من الواضح انه في الواقع المعروف اي في الواقع كما عُودنا ان نراه تسمع هذه الفكرة داحضة، لكن هل هي داحضة الى هذا الحد؟ ألا تستطيع دولة اسرائيل وسلطة حماس التوصل في الحقيقة بوساطة جهات اجنبية الى اتفاق جزئي لكنه مجد كهذا؟ أيكون هذا الاتفاق 'منح منظمة ارهابية شرعية'، كما يزعم معارضو أي اتصال بحماس، أم خطوة ذكية من دولة تعمل بجرأة ومرونة لتحسين وضعها الصعب؟ وبالمناسبة، ألا يوجد في التفاوض الذي يتم اليوم مع حماس شيء من 'منح منظمة ارهابية شرعية'؟ ولماذا نكتفي باطلاق غلعاد شليط فقط (وهو الامر المرغوب فيه جدا) في حين يمكن ان ننشىء وضعا تكون فيه امتيازات اسرائيل وانجازاتها اكبر كثيرا؟
لن تستطيع اسرائيل احراز سلام كامل حقيقي مع حماس في المستقبل القريب وربما لن تستطيع في المستقبل البعيد ايضا. فحماس لا تعترف باسرائيل وهي تشترط اتفاق سلام معها بقبول مبدأ 'حق العودة' وانسحاب كامل الى خطوط 67 وهذه شروط لا احتمال ان توافق اسرائيل عليها. لكن لماذا لا تحاول اسرائيل ان تحرز على الاقل ما يمكن احرازه في هذه المرحلة، في وضع الامور الصعب بينها وبين حماس؟ أربما خلال ذلك يتبين ان حماس ايضا قد اصبحت ناضجة بل مُؤملة حراكا ما في برد القسر الذي لبسته برفضها المتشدد؟
من المحرج تعرف صورة السلوك الذي حكمت به اسرائيل على نفسها مرة بعد اخرى: كما في الرفض المطلق مدة عشرات السنين لكون منظمة التحرير الفلسطينية طرفاً في المحادثات، وكما في اخلاء المستوطنات من غوش قطيف والانسحاب السريع من لبنان في سنة 2000، وكما في قضية الاسطول البحري الذي افضى الى ازالة الحصار عن غزة. تعرض اسرائيل منذ سنين موقفا متشددا، ومتشنجا واحاديا، وتنفخ عضلاتها وتعلن أنها لن تتخلى عن شيء الى ان ينقلب الوضع من أساسه مرة واحدة بين عشية وضحاها، وتنزاح الارض او البحر من تحت اقدامنا، وتضطر اسرائيل الى التنازل على طول الخط، اكثر مما كانت تتنازل في تفاوض حواري (ومن المفهوم أنها كانت تحصل آنذاك على مقابل أصغر عن تنازلاتها).
يبدو أن الامور تفضي الى هذا في قضية غلعاد شليط المؤلمة المخيبة للأمل. لكن أربما في هذه المرة، والطرفان ناشبان في مواقفهما ولا يبدو حل في الأفق، نجرؤ على أن نوسع بمرة واحدة وجهة النظر، ونحرر أنفسنا من الشروط الثابتة، ونقرر بمبادرة منا (آه هذه كلمة منسية)، زخم المسار وقدره؟
ألن توافق حماس؟ ربما. هلم نتحداها، فلربما نفاجأ؟ ان حماس في الحقيقة سلطة، تعمل أكثر من مرة بطرائق بغيضة غير انسانية تجاه الفلسطينيين انفسهم. لكن أيمكن ان يكون هذا مسوغا للشلل الاسرائيلي المطلق ازاءها؟ وهو شلل في واقع الامر ليس شللا البتة، لانه يحدث في نهايته مساراً تضطر فيه اسرائيل الى الرجوع مرة بعد اخرى عن مواقفها، من غير ان تحصل على اي عوض، كما في الانسحاب من غوش قطيف وكما في قضية الاسطول البحري؟
لا يحاول احد تحريك شيء ما في الواقع المتحجر. او ان يحدث مسارا قد يضطر حماس الى ان تغير نهج عملها شيئا ما ولا اتحدث عن علاقتها نحو اسرائيل. لا يفعل احد شيئا لتحسين وضع اسرائيل: إن قول 'لا' ليس سياسة، بل هو جمود فكري. وهو في النهاية سلب أنفسنا حرية العمل.
إن الدعاوى المعروفة، التي تعرض على الجمهور في اسرائيل على انها بديهية مقدسة، وهي ان التفاوض مع حماس سيضر بالقيادة الفلسطينية التي هي اكثر اعتدالا في الضفة، تستدعي هي ايضا للفحص عنها من جديد: أربما هنا أيضا، كما في شأن الحصار على غزة، يتبين أنهم يطعموننا منذ سنين كليشيهات لا تلائم جميع تنوعات الواقع وامكاناته؟ أوربما يتبين ان مفاوضة حماس تمهيدا لتسوية ما، ستحث أناس السلطة خاصة على أن يعجلوا من قبلهم مسيرة السلام مع اسرائيل؟ أوربما ينشأ حراك يحرك مسيرة مصالحة في العلاقات بين جزأي الشعب الفلسطيني الذين يعادي كلّ ٌ منهما الآخر، وهي مسيرة لن تحرز بغيرها أي تسوية سلام مستقرة ولا حتى مع أبي مازن ورجاله؟
ليس من الداحض تخمين أن اجدى طريقة لمضاءلة قوة حماس في غزة وتأثيرها، واعادتها بالتدريج الى حجمها الطبيعي، ستكون من خلال احداث ظروف سلام ونماء وبناء أمة عند الفلسطينيين في الضفة. إذا صيغ حتى عند جزء صغير من سكان غزة أمل ما في مستقبلهم، فستضعف من تلقاء نفسها قوة جذب الأصولية والتطرف الديني والقومي.
يمكن ان نبالغ وان نرسم وضعا لن تنشىء فيه حتى عودة سجناء حماس كلهم الى غزة، على الفور وعلى نحو حتمي واقعا يعاود فيه جميعهم العمل في الارهاب، بل انه يوجد احتمال ألا يكون الارهاب والعنف في الوضع الجديد الذي سينشأ خيارا لا مناص لهم عنه.
كل هذه أفكار يمكن الاتفاق عليها ويمكن ابطالها، او اغماض العينين عنها ببساطة. أنا أريد أكثر من الاقتراحات أنفسها أن اصرف النظر الى ما يبعثها ألا وهو الشعور بأن اسرائيل منذ عدة سنين تعاني من شلل أخذ يبطىء حركتها إلى وضع ٍ يعرف فيه كل ذي لب البلادة والعجز، بل تضاؤل غريزة الحياة السلمية. هذا هو الخطر الحقيقي على اسرائيل، وهو أشد تدميرا من كل أخطار حماس.
منذ زمن كان يجب على رئيس حكومة اسرائيل أن يأخذ بين يديه الفسيفساء الجامدة المتحجرة لصورة الصراع، كي يحاول ان ينشىء من تلك القطع المعروفة مهما تكن داعية الى اليأس صورة جديدة. فهذا بالضبط عمل الزعيم. يصعب أن ندرك لماذا لا تحاول اسرائيل، أقوى دول المنطقة أن تعود الى السيطرة على مصيرها بأن تحرك مسارات، بدل ان تسلم مستقبلها للاخرين مرة بعد اخرى. ولماذا تصر على المساومة منذ عشرات السنين في تفصيلات صغيرة مهمة لكنها غير مصيرية بدل ان تحاول تغيير الصورة الكبيرة من أساسها.
إن ميل زعماء اسرائيل التقليدي الى أن يثيروا بلا انقطاع عللا وتعليلات لعدم الفعل، وعدم قدرتهم على التمييز بين الجبال وظلالها، وبين الاخطار الحقيقية وأصداء الاخطار، يفضي آخر الامر باسرائيل الى قول 'لا' مطلقا شاملا للواقع كله، وكذلك للاحتمالات الضئيلة التي تنجم فيه من آن لآخر. هذا الرفض العنيد أصبح فوق وسائلنا. وبمفاهيم بسيطة من طلب البقاء لسنا نستطيع أن نسمح به لأنفسنا. وفي الحقيقة ـ ما الذي يجب ان يحدث بعد كي نتحلحل آخر الامر ونزيل الحصار الذي فرضناه منذ سنين على انفسنا؟
هآرتس 6/7/2010