الطائفية من ولاية الفقيه إلى الدولة الإسلاميةهيفاء زنكنة
February 23, 2015
من مفارقات جغرافية وكينونة العراق، ان يكون بلدا تظلله، على اختلاف المسافة، ثلاث دول تستند بوجودها على الدين والطائفة، وليس الى مبدأ المواطنة وحق الإنسان في العيش حرا في بلده. فالكيان الصهيوني يستند الى اليهودية كقومية وأيران الى الطائفة الشيعية وولاية الفقيه والسعودية الى الطائفة السنية والوهابية. صراعات هذه الدول فيما بينها تتحكم، بدرجات متفاوتة، فيما يجري داخل العراق . بعضها تاريخي يعود الى قرون مضت والبعض الآخر، كما الكيان الصهيوني، حديث نسبيا. يضاف الى هذا المثلث، الأطماع الامبريالية واهدافها الثابتة تاريخيا للهيمنة على النفط والغاز، وتسويق السلاح، وحماية الكيان الصهيوني في آن. يتم تحقيق الهيمنة بذرائع يتم انتاجها وتبديلها حسب الحاجة، من خلال سلطات محلية يفضل أن تكون مؤقتة، تحكم بالنيابة وتتميز بإستعدادها للقمع بأشكاله، مهما كان الثمن وانعكاساته على البلد وأهله ومستقبله، مقابل الثروة والسلطة الفاحشة اليوم وليس غدا.
من هنا نشأت الحاجة الى تكريس الطائفية، وكان للاحتلال الانكلو أمريكي، دور فاعل بجعلها جزءا لايتجزأ مما بقي من تشكيلات يطلق عليها اسم مؤسسات الدولة والحكومة . الا ان جهود المحتل والاحزاب الطائفية باءت بالفشل، خلال سنوات الاحتلال الاولى، وبقي الصراع الطائفي محصورا ضمن طبقة الساسة واتباعهم المنتفعين بدون ان يغرز جذوره في تربة المجتمع. أثبت المجتمع وعيه المتقدم حتى على الاحزاب اليسارية والقومية ناهيك عن الأحزاب الطائفية التي هي بأمس الحاجة الى مد جذورها داخل المجتمع والادعاء بتمثيله. لمواجهة الفشل في زرع الطائفية، كان على القوى الخارجية ذات المصالح المتنافرة أحيانا والمتقاربة أحيانا اخرى، ان تعمل بسرعة فتم تعيين جون نيغروبونتي، عام 2004، سفيرا للمحتل ليقوم بنقل تجربة فرق الموت والتفجيرات والخطف التي اقترن اسمه بها في أمريكا اللاتينية،على مدى ثلاثين عاما، الى المناطق والمدن العراقية الرافضة للتقاتل الطائفي المطلوب.
مما يذكرنا بما قامت به الحركة الصهيونية، عام 1951، حين قامت بتفجير كنيس يهودي، بمنطقة البتاويين ببغداد لترويع اليهود الرافضين للهجرة والمصرين على عراقيتهم، ونجحت بتهجير آلاف اليهود، ساعدهم في ذلك رئيس الوزراء العراقي الذي وضع قانون اسقاط الجنسية بإيعاز من السفير البريطاني لتشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين . ونجح نيغروبونتي بعد غزو 2003 باثارة النعرة الطائفية وتصعيدها، من خلال تعيين زميله السابق في إدارة فرق الموت بأمريكا اللاتينية الكولونيل ستيل كمستشار أمني للحكومة العراقية . و تركز عمل ستيل على تأهيل فرق الموت العراقية مباشرة، أو بشكل غير مباشرعبر إختراق ميليشيا فيلق بدر وجيش المهدي لأغتيال مقاتلي المقاومة بدعوى تصفية رموز الحكم السابق الذي نسب الى الطائفية.
ضمن هذه المعطيات الداخلية والخارجية المتداخلة، كيف ننظر الى الطائفية؟
أثبت ما يزيد على العقد من الاحتلال وحكوماته المتكونة من طرفي المحاصصة الطائفية، بالاضافة الى لعبة الجذب والدفع بين أمريكا والسعودية وأيران، وما ترتب على ذلك من خلق الميليشيات وفرق الموت والعمليات الخاصة، ان الطائفية اداة أيديولوجية للهيمنة والسيطرة على السلطة وموارد النفط العراقي عبر آليات مختلفة من بينها الاستخدام العاطفي للدين، الادعاء بامتلاك الدعم الآلهي على الارض متمثلا بولاية الفقيه عند الشيعة وطاعة ولي الأمر عند السنة، الاحساس بالغبن التاريخي وتجييش العواطف تبعا لذلك. ولايمكن تحقيق هدف أيديولوجية الطائفية في الهيمنة السلطوية الا من خلال خلق قاعدة جماهيرية ذات هوية طائفية، توفر، خاصة في حال غياب الدولة وحقوق المواطنة، الاحساس بالانتماء الى مجموعة محددة تحمي نفسها بالتضامن مع بعضها ظالمين كانوا أم مظلومين، وما توفره المجموعة من حماية في شبكة علاقات اجتماعية تتميز بالطقوس، والاحتفالات، وتسهيل المعاملات، وتوفير فرص العمل. ويكون ثمن الانتماء الطائفي المحدد هو الغاء «الآخر». لا يتم الالغاء دفعة واحدة، خاصة، اذا كان المجتمع عريقا في تنوعه الديني والعرقي كالعراق. بل يتخذ الألغاء اشكالا مختلفة وبمستويات متفاوتة. يبدأ، عادة، بالتهميش المعيشي أو عدم توفير فرص العمل للجميع حسب الكفاءة، ثم الأستهداف السياسي وتوجيه التهم الجاهزة، التخويف والترويع للاجبار على النزوح القسري والهجرة، الحصر ضمن غيتوات او مناطق مغلقة، ارتداء ازياء معينة للدلالة على التمايز، الخطف والاعتقال العشوائي والتصفية الجسدية، وترويج الأشاعات لأثارة الخوف من « الآخر» وتجريمه .
ان الغاء « الآخر» يصبح سهلا اذا ما تم جعله محط اسقاطات غير مستساغة أو «منحطة» اجتماعيا وسياسيا ودينيا. حينئذ يجرد من انسانيته. لايعود «الآخر» انسانا بل «شيئا» أو مجرد كتلة جسدية تحتل حيزا من الفضاء الذي يجب امتلاكه والهيمنة عليه. انه عائق يجب ازالته وان يكون، في الوقت نفسه عبرة لـ «الآخر». لأزالته تستخدم كل الطرق المتاحة ومنها التقطيع والتشويه والحرق. وهذه أصبحنا نشاهدها اليوم كأفلام رعب يمثلها قتلة الدولة الإسلامية. لكننا يجب الا ننسى ان سابقاتها منذ 2003 كانت فرق الموت الامريكية والميليشيات المدعومة ايرانيا التي وفرت لغرض الترويع أمثلة، لاحصر لها، في الجثث التي تم التمثيل بها تقطيعا وحرقا.
لقد اعتبر جندي الاحتلال الامريكي قتل العراقيين عاديا «لأنهم ليسوا بشرا»، كما قال ستيفن دل الذي قام مع خمسة جنود آخرين بقتل الطفلة عبير الجنابي وحرقها بعد اغتصابها مع شقيقتها هديل (8 سنوات) ووالديها، عام 2006 . أما الآن، فأن مقاتلي الدولة الاسلامية يتفننون بتطوير اساليب من سبقهم، بشكل يجمع ما بين بشاعة جرائم المحتل وفرق الموت والارهاب، والاخراج الاستعراضي الهوليودي. انهم يلتفون بقناع طائفي ويدعون امتلاكهم قوة ألهية لتكفير «الآخر» وبالتالي انزال العقاب به سواء كان العقاب حرقا أو قطعا للرأس. «الآخر»، بالنسبة اليهم، عائق يجب التخلص منه لنشر ايديولجيتهم في مسار الاستيلاء على السلطة.
كيف ننجو من ايديولوجية الطائفية وجرائمها التي باتت تمس كل شرائح المجتمع؟
ان التعافي من أي ظاهرة مضرة وأجرامية، بشكل جذري وليس الادعاء بذلك بشكل تزويقي، يتطلب النظر في اسبابه في الحاضر والماضي مع تفادي العيش في ماضي يكاد يكون أسطوريا وضبابيا نسجته الفرق الدينية والسلطات المتناحرة عبر القرون . وبدون هذا التمييز بين ماض مؤرخ قريب يمس حياة الناس، وبين الماضي السحيق اصبحت محاولة الفهم، المطلوبة للتخلص من الطائفية، مجرد استرجاع لقصص متناقضة وتبرير للفشل وغسل اليد من مسؤولية الاخفاقات الحالية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فالاتكاء على الماضي والتماهي معه والتركيز على مأساة حقيقية كانت أم وهمية، افضل شاغل عن رؤية وفهم ما يجري حاليا. حينئذ يصبح الوعي المستلب أفضل سلاح يمتلكه مؤدلجو الطائفية سواء كانت وعودهم ستتحقق بظهور المهدي المنتظر أو الحور العين.
الطائفية، باختصار شديد، هي أيديولوجية للسيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية مبنية على الخوف واستشراء المشاعر غير العقلانية، ساعد المستعمر على مأسستها وتنميتها لتجنيد عملائه. يلبسها البعض مسوح الدين لأضفاء القدسية على أفعالهم بينما يستخدمها آخرون لتغطية نزعاتهم الاجرامية واللاأخلاقية. ومأساة المآسي حين يكون نظام الحكم، كما في العراق، مبنيا عليها.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة