حدث هذا في بغداد بعد كذا سنة: فنتازيا لحقيقة مؤجلة إنهاء الروح التي توحد العراقيين بالانتماء إلى العراق، هو الضمانة الأكيدة ليكتب التاريخ عندها، كان هنالك وطن اسمه العراق. العرب
د. قاسم حسين صالح [نُشر في 25/02/2015، العدد: 9839، ص(
] أقامت السفارة الأميركية بالمنطقة الخضراء حفلا حضره سفيرا بريطانيا وفرنسا ووزير خارجية إسرائيل وممثلون عن الاتحاد الأوروبي وعدد من كبار المسؤولين الأجانب والعرب ومن دول الجوار، وكانت المناسبة توزيع الجوائز على الذين ساهموا في تقسيم العراق.
وكما يجري في تصنيف الأوسكار حيث هنالك جوائز بطولة وأخرى بطولة مساعدة، فقد كانت هنالك جوائز ضخمة وأخرى أقل ضخامة وفقا لمعايير وضعتها لجنة متخصصة في الاستخبارات الأميركية والبنتاغون، تضم أيضا خبراء بريطانيين وإسرائيليين. ولوحظ وجود غرفة زجاجية مظللة قالت لنا (العصفورة) أنها تضم وجوها سياسية عراقية معروفة بأزياء مختلفة بينهم أفندية ومعممون ولابسو يشماغات وغتر، ووجوها أخرى غير معروفة بينهم شباب من الجنسين.
افتتح الحفل السفير الأميركي بكلمة جاء فيها: إن فكرة تقسيم العراق كانت حاضرة في عقل الإدارة الأميركية منذ نصف قرن. وبناءا على نصيحة من خبراء سيكولوجيين فإنها بدأت أولا بإشارات عابرة كي لا تثير حفيظة معظم العرب ممن كانوا يعدّون العراق بوابتهم الشرقية.
ولأن العراقيين كانوا وقتها موحّدين ويشعرون بالاعتزاز والتباهي والافتخار بوطن يعدّونه مهد الحضارات الأولى في التاريخ، وأنهم كانوا قد جعلوه فعلا “مقبرة للغزاة” وعذرا لأنه صار الآن مقبرة لهم.
غير أن عام 1990 شهد أول خطوة عملية لتنفيذ الفكرة، بأن أوعزنا لسفيرتنا في العراق، التي قدمناها فيما بعد قربانا لأميركا، أن تلتقي بصدام وتعمل بتوجيهات خبرائنا علماء النفس الذين حللوا شخصية صدام، فأوحت له بما فهمه أن أميركا لا تعارض إن دخل الكويت. وكنا حبكنا سيناريو يستفز عقليته العشائرية وشخصيته النرجسية وولعه بالتحدي والطموح اللامحدود، ففعلها ودخل، وبدخوله تحولت الفكرة إلى واقع على الأرض وموضوع على مائدة السياسة، بعد أن نجحنا في تغيير مواقف العرب الجيران من بقاء العراق بوابتهم الشرقية، إلى الرغبة في تقسيمه ليخلصوا من شرّه. وبهذه المناسبة التاريخية يتوجب عليّ أن أشير إلى ملاحظتين:
الأولى، ليس كل الفائزين بجائزة توزيع تقسيم العراق هم من المتعاونين معنا، أو “عملاء أميركا” بلغة الآخرين، فبينهم من ليس متعاطفا معنا ومن يجاهر بعداوته لنا، ولكننا درسنا شخصية كل واحد منهم ونجحنا في وضعه على السكة، واقتصرت مهمتنا بعدها على دفعه باتجاه تحقيق الهدف.
والثانية، ليس كل الفائزين حاضرين الآن، فبينهم من لا نريد كشفه لدور قيادي ينتظره.
وأضاف السفير موضحا، إننا مدينون إلى الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي استطاع، بعد أن عرفنا كيف نشحنه، أن يحشد العالم ويشن هجوما كاسحا كسر ظهر الدولة العراقية وأطاح بمؤسساتها العسكرية والاقتصادية، وفرض حصارا اقتصاديا وعلميا وثقافيا جعل معظم علماء ومفكري وعقلاء العراق يغادرونه إلى بلدان منحتهم جنسياتها ليستقروا فيها ويعيشوا بحرية وكرامة افتقدوهما في وطنهم، فيما الذين بقوا هم غالبية تعيش حالة البؤس والعجز. كنا نعلم أنها ستولّد لديهم الكره لواقع لا يطاق، يتحول لاشعوريا إلى كره للعراق، ويضمن لنا أنهم سينتخبون من سيعمل على تحقيق هدفنا ونحن من فعله بريئون.
ولأننا نعرف أن العراقيين انفعاليون وعاطفيون، فقد أوعزنا إلى حاكمنا بول بريمر أن يتعاطف مع الشيعة، فيما أوعزنا إلى سفيرنا زلماي خليل زاده أن يتعاطف مع السنة.. فكان أن منح الشيعة الحاكم بريمر لقب “أبو حيدر” فيما منح السنة سفيرنا زلماي لقب “أبو عمر”، وكان منحهم هذا قائما على سيكولوجيا الضحية التي عاشها الشيعة زمن الدكتاتورية، ويعيشها السنّة زمن الديمقراطية، وكان علينا أن نمضي أكثر ما دام الباب قد انفتح على التقسيم.
كان الأمر يحتاج إلى تصعيد، ذلك أن خبراءنا السيكولوجيين أفادونا أن الشيعة والسنّة ينّحون جانبا ما بينهم من خصومات وعداوات، ويتوحدون أمام من يعدّونه محتلا كما حصل يوم زار القائد العسكري البريطاني “لجمن” قبيل اندلاع ثورة العشرين، المرجع الديني الشيرازي في النجف وعرض عليه أن يأتيه بمفاتيح روضة الإماميْن في سامراء من السّنة ويعطيها للشيعة، فرفض الشيرازي وعاد “لجمن” خائبا ليحرّض الشيخ “ضاري” قائلا “كيف تطيعون فتوى الشيرازي وهو مرجع للشيعة”؟ فأجاب الشيخ ضاري “والشيرازي مرجعنا أيضا”.
كان علينا أن نُدخل طرفا ثالثا يتولى هذه المهمة، وكان هذا الطرف حاضرا، إذ أننا كنّا فتحنا حدود العراق حين دخلناه في 2003 وفسحنا المجال للإرهابيين في العالم بأن يتوجهوا إليه، فجاءوا من كل البلدان بما فيها أفغانستان ودول أخرى لا تخطر على بال مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا واستراليا وهولندا.
وحدث احتراب طائفي عنيف لسنتين حوّل التقسيم من فكرة سياسية وحالة اجتماعية نفسية، إلى حقيقة على الأرض، وبحصولها أنهينا (الزرقاوي) الذي أتم المهمة.
ولقد أفادنا خبراؤنا بعلم الاجتماع بنصيحة ذهبية: علينا أن نوظّف المعطيات الديمغرافية والتاريخية للعراق، ونستحضر تجربة تفكيك الاتحاد السوفياتي وتقسيم يوغسلافيا وتوظيفهما في جغرافيته البشرية لخلق أزمة سوسيولوجية للعراقيين، وأردفوها بنصيحة ماسية: إذا أردتم السيطرة على مجتمع ما، عليكم باستهداف قيمه الأخلاقية.
ولقد وجدنا ضالتنا في أشخاص انتخبتهم جماهير لا على معيار الكفاءة والنزاهة، بل الانتماء العشائري والطائفي والقومي. ولأنهم كانوا محرومين ولهم شراهة للثروة فإنهم بدأوا خطواتهم الأولى في الفساد المالي على وجل واستحياء، ثم تشجعوا حين وجدوا أن وزراء ومسؤولين كبار سرقوا المليارات وهربوا بها إلى أميركا وبريطانيا وهـم محميـون. عندها شاع الفساد وصار عند العراقيين شطارة بعد أن كانوا يعدّونه خزيا، وبه تمت خلخلة المنظومات القيمية الأخلاقية في المجتمع العراقي، لتكتمل عوامل التقسيم، سياسيا واجتماعيا ونفسيا ولوجستيا، وإيصال العراقيين إلى الحالة التي أفادنا بها خبراؤنا السيكولوجيون بأن نجعلهم يدركون أن العراق صار أشبه بالباخرة (تايتنك)، وأنهم إن بقوا فيها سيهلكون، ما يجعلهم في الأخير يقبلون جميعا بالتقسيم، وسارت الأمور بأكثر مما كنّا نتوقع كما تلاحظون.
وقبل أن نبدأ توزيع الجوائز التي سيشاركني فيها وزير خارجية دولة إسرائيل والسفير البريطاني وشخصية أخرى سيعلن عنها في حينه، نود أن نشير إلى أن المنفّذ الأكبر الذي وافق على إعلان اسمه بالفوز هو “أبو بكر البغدادي” الذي كنّا أعددناه نفسيا لهذه المهمة باعتقالنا له أربع سنوات خرج منها مشحونا بروح الحقد ودافع الانتقام، بعد أن درسنا شخصيته مذ كان صبيا يلعب كرة القدم في شوارع مدينة “الطوبجي”، إلى حصوله على شهادة الدكتوراه من الجامعة الإسلامية، وقد أدى المهمة بشكل يفوق التوقع.
السادة الوزراء والسفراء وممثلو من يعنيهم الأمر: إن إنهاء الروح التي توحّد العراقيين بالانتماء إلى العراق، هو الضمانة الأكيدة ليكتب التاريخ عندها، كان هنالك وطن اسمه العراق. ومع أننا مطمئنون إلى أن من صـاروا مؤثرين في العمليـة السياسية ساروا في طريق تبـادل التهم التي تباعد فيما بينهم، وأننا أعددنا من سيتعاونون معنا، لكنني لا أخفيكـم خشيتي من العراقيين. فحين دخلت قبل أيام صحبة مترجمي إلى كنيسة في الكرادة، رأيت امرأة بعباءة قد أشعلـت شمعـة ووقفت أمام السيدة العذراء، تتوسل إليها وهي تبكي “مريمانه.. بجاه أبو الحسنين عليج.. رديلي ابني”، وما زاد من خشيتي أنها ختمت دعاءها قائلة “تعالوا قسّموا قلبي ولا تقسّموا العراق”.
رئيس الجمعية النفسية العراقية