ما الذي سيبقى من العراق لأحفادنا؟هيفاء زنكنة
March 2, 2015
الفيديو المفجع لمجموعة رجال يهوون بفؤوسهم على رؤوس تماثيل في متحف الموصل وآخرون يستخدمون المثقاب الكهربائي لتحطيم وتفتيت الثور المجنح، هو فعل همجي متعمد يضع اللمسات ما قبل الأخيرة، على سيرورة وأد العراق الذي نعرفه.
أثارت عملية التحطيم التي يكشف موقع «عين الموصل» الموثق انها تمت بين شهري تموز/ يوليو وآب/اغسطس 2014، حملة استنكار أعلامية عالمية. برامج وندوات صحافية ومقالات. من كان صامتا على مدى سنوات، نطق. أختلطت أصوات الحريصين على العراق، شعبا وتاريخا، باصوات من ساهموا، عمليا، بتحطيم العراق وتسليمه الى البرابرة.
كلنا، نحن الذين وقفنا مناهضين بقوة ضد تسليم العراق الى المحتل، تحت أي ذريعة كانت، كنا نعلم ان عرض البلد للبيع في السوق مثل البضاعة، سيقلل من قيمته، تدريجيا، حتى يصبح بالنتيجة، معروضا مجانا، لمن يأخذه. العراق الذي تمت استباحته عدة مرات، منذ سنوات الحصار، بات اليوم، بضاعة مستهلكة بانتظار من يلتقطها. فكان مجيء الغزاة الجدد ملتفين بمعطف « أسلامي» لايقل دموية عن «أسلامية» مرافقي غزو 2003.
سيرورة هدم معالم الحضارة والتاريخ لم تبدأ يوم 10 حزيران/يونيو 2014، يوم هيمن مقاتلو داعش على مدينة الموصل وخلع «حماة الوطن» زيهم العسكري وتخلوا عن أسلحتهم ،هاربين بالآلاف بعد ان أذاقوا سكان المدينة مرارة الانتقام والأهانة والاعتقالات. هذه السيرورة المنهجية المتعمدة نمت تحت أنظار قوات الاحتلال وترعرعت في ظل حكوماته العراقية المتعاقبة. وهي نقطة أهمل ذكرها معظم المتحدثين عن جريمة داعش في متحف الموصل وغيره. لقد، اختاروا، على اختلاف مواقعهم، ومن بينهم إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو، الأشارة الى حجم الكارثة الحقيقي وتشخيص مرتكبيها منذ عام 2003، خشية تحميل قوات الاحتلال العسكرية، بقيادة أمريكا، المسؤولية المشتركة مع داعش في ارتكاب جرائم التطهير الثقافي ضد الشعب العراقي. ان جرائم داعش مرآة لجرائم المحتل وحكوماته وأي أخفاء لهذه الحقيقة هو محاولة لطمس جرائم حقبة ما عن طريق تسليط الضوء على جرائم حقبة اخرى، لتكون النتيجة مسح وجود العراق وشعبه الغني بقومياته وأديانه، حقبة بعد حقبة.
ألفباء التطهير التاريخي والثقافي المصاحب للاحتلال، بدأ بفتح ابواب المتحف الوطني العراقي للمخربين والمهربين وماتلاه من حرق ونهب لبقية المتاحف والمكتبات والمعارض والجامعات والبيوت الأثرية. ثم جاءت جريمة تحويل المواقع الأثرية التي تشكل ميلاد الحضارة الانسانية، الى مواقع عسكرية ومهابط للطائرات المروحية ومتاريس للدفاع عن وجود القوات، باعتباره اولوية مطلقة وتبا للآثار والحضارة والذاكرة. من بين المواقع مدينة أور (المعروفة باسم المقير)، جنوب غربي مدينة الناصرية، ومن أبرز آثارها الزقورة، طور المعابد الشهير. تعرضت أور، على مدى خمس سنوات من تحويلها الى قاعدة عسكرية الى كل انواع التخريب اليومي. ثم حلت كارثة أخرى عندما اعتبر قادة الاحتلال موقع مدينة بابل الاثرية موقعا استراتيجيا لهم وانزلوا فيه قواتهم فجرفوا المكان لمكاتبهم و لمهابط الهليكوبترات وتم تفتيت ماهو موجود ليتم ملء اكياس السواتر بها، مزيلين بذلك ما يشير الى الحضارة البابلية عبر الآثار. وبلغ عدد المواقع التي دمرها المحتل بشكل مباشر سبعة مواقع، متجاهلا بذلك القانون الدولي الذي ينص على أن استخدام المواقع الأثرية التاريخية كقواعد عسكرية، خلال فترة الاحتلال، انتهاكاً لميثاق لاهاي وبروتوكول عام 1954 وأن من واجب ادارة الاحتلال اتباع كل السبل لحمايتها.
واصلت الحكومات العراقية المتعاقبة سيرورة التخريب أما بشكل مباشر لأسباب طائفية أو إسطورية أخرى، أو غير مباشر بالإهمال وغض النظر عن مخاطر غياب الحماية للمواقع الآثارية التي كانت لعقود أو قرون بعهدة السكان المحليين الموثوقين بدعم وإشراف حكومي. استمر حفر ونهب المواقع الأثرية من قبل عصابات التهريب التي غالبا ما تتم بالتعاون مع رجال الأمن والشرطة. وتم ترك المواقع بلا حماية مما جعلها عرضة للسرقة والاتجار في الاسواق المحلية والعالمية. والتهم الفساد الحكومي ميزانية الدولة ليرمي كل ما له صلة بالثقافة وحماية الموروث الثقافي جانبا. فصارت الآثار والتحف تباع في الاسواق العالمية عبر شبكة الانترنت باسعار بخسة. وطال التخريب التماثيل والنصب والجداريات التي كانت تزين العاصمة بغداد . واذا كان الداعشيون قد حطموا تماثيل متحف الموصل لأنها تشغل الناس عن عبادة الله فأن طائفيي النظام رأوا في قطع رأس تمثال أبو جعفر المنصور، مؤسس مدينة بغداد، ثأرا لابد من نيله حتى بعد ألف عام. مما يذكرني بما كتبه د خالد عزب ( مكتبة الاسكندرية)، عن موقف العرب التاريخي بالآثار، قائلا: «لقد اهتم الأقدمون به، وبخاصة العرب، ونلمح هذا في العديد من الاطروحات في تاريخنا. فحينما شرع المعتضد بالله في هدم السور المحيط «بالمدينة المدوّرة» في بغداد، التي شيّدها ابو جعفر المنصور، هبّ البغداديون غضباً، وساروا الى الخليفة فقالوا: «يا أمير المؤمنين، فخُرنا، وذكرُنا، ومآثرُنا»، فأمر بوقف الهدم، وترك السور على ما هو عليه». وقد أعاد رئيس «حركة النهضة» الإسلامية في تونس، راشد الغنوشي، الى الأذهان موقف العلماء والصحابة من الأرث الحضاري في تعليق له على متحف الموصل، متسائلا: «هل الدواعش أعلم وأفقه من أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وجميع العلماء والصحابة الذين عاشوا في العراق أرض الحضارات، ولم يفكروا أبدا في تدمير إرث العراق الحضاري.. هؤلاء لا يمتون إلى الإسلام بصلة».
اذا ما نظرنا، اليوم، الى خراب العراق البشري والعمراني وتلاشي معالمه الحضارية، سنرى ان بعض الخراب قد مس الناس انفسهم. وهو نتيجة طبيعية لسنوات الحروب والحصار والاحتلال وما ترتب عليه من خيبة مستمرة لا تترك فسحة للامل. أما الخراب العمراني والتطهير الثقافي وما يحمله من عمق تاريخي وحضاري، فانه ضرورة من ضرورات ديمومة الأحباط لدى الشعب ودفعه الى القبول بكل ما يقدمه اليه المستعمر واتباعه. ليست صدفة، اذن، ان يستخدم المحتل مصطلح بناء «العراق الجديد»، لتوصيف استراتيجيته. ان مسح ما هو موجود على أرض البلد المحتل من آثار ومبان ونصب هو مسح للذاكرة والهوية الوطنية . وهو خطوة ضرورية لتصنيع الهوية الجديدة المستندة على تفسيرات «تاريخية» مستحدثة . وهو مماثل لما يقوم به الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين. اذ يقوم بجرف القرى والمدن الأصلية وبناء مستوطنات لبلد يستند الى تاريخ ملفق لا اساس له.
ازاء الهجوم المكثف على تاريخ العراق وهويته، من جهات عدة، تجمع ما بين الاحتلال بانواعه وما أفرزه الاحتلال من حكومات طائفية وميليشيات وداعش، هل سيبقى العراق وما تبقى من أرثه الحضاري ميراثا لاحفادنا؟
ان استعادة العراق لاستقلاله والمحافظة على وحدته عبر حكومة وطنية ولاؤها الاول والاخير للعراق، هو المقياس. حينئذ، لن يكون مستحيلا، اعادة البناء وحماية الموجود والتنقيب والبحث بأيد عراقية، مهما كانت الخسائر الحالية.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة