المنظمات النسوية وحقوق المرأة والعدالة الانتقائيةهيفاء زنكنة
March 9, 2015
لا يستطيع من يقرأ بيانات المنظمات النسوية، العراقية، الناشطة، في مجال حقوق المرأة، وبيانات وزارة المرأة عن إنجازاتها، إلا أن يتساءل عما كانت هذه المنظمات والوزارة ستفعله لو لم تصبنا كارثة تنظيم «الدولة الإسلامية» – داعش. مما لا يقبل الشك إن جرائم داعش بحق المواطنين كارثية، وستؤثر على مستقبل العراق لسنوات مقبلة. وهي جرائم يجب أن يحاسب مرتكبوها وفق القانون، كما يحاسب مرتكبو الجرائم السابقة واللاحقة بحق كل مواطن، مهما كان دينه أو مذهبه أو قوميته أو جنسيته. فهذا هو المفهوم المتعارف عليه عند تطبيق القوانين في ظل الدول المؤسسة على احترام المواطن والتعامل معه وفق القوانين.
الملاحظ أن هذه المسائل الأساسية غائبة عن بيانات المنظمات النسوية الصادرة بمناسبة يوم المرأة العالمي، المصادف 8 آذار/ مارس، على الرغم من تقديمها، نفسها، باعتبارها مدافعة عن حقوق المرأة، متغاضية بذلك عن واحدة من أهم الأسس التي يجب تبنيها، إذا ما كان دافع العمل تغيير المجتمع كي تتمتع المرأة، حقا، بحقوقها كاملة، أي أن حقوق المرأة هي حقوق الإنسان. فمن بديهيات الدفاع عن حقوق الإنسان وجوب احترامها وصيانتها لا في أوقات السلم فحسب ولكن في أوقات الحروب والنزاعات، بشكل خاص، وأن يكون واجب العاملين في مجال حقوق الإنسان كشف الانتهاكات والخروقات بشكل موضوعي، غير مسيس أو مؤدلج، مهما كانت الجهة التي ترتكبها، وألا يكون العمل انتقائيا أو ذرائعيا بحجة محاربة الإرهاب أو حماية الأمن القومي.
من هذا المنطلق نجد أن معظم بيانات المنظمات النسوية، التي حصرت تحليلها لوضع المرأة العراقية المأساوي بفترة زمنية محددة ونتيجة جرائم جهة واحدة هي داعش، انتقائية في تجاهلها لكل الجرائم التي ارتكبت، وشملت المرأة، قبل تواجد داعش. أصبح وجود داعش هو الكفن الذي يغطي كل شيء وحرام رفعه للنظر إلى ما تحته. فمن يراجع بيانات المنظمات ذاتها، بمناسبة يوم المرأة العالمي، في الأعوام السابقة، سيجدها خالية من الإشارة بأصبع الاتهام إلى مرتكبي الجرائم، والاكتفاء بالقول: «نناشد بهذه المناسبة الحكومة والبرلمان». وهو موقف مؤسف، لأن من بين المنظمات من كان لها باع نضالي، تاريخي، طويل ضد الاستعمار، وكان الأجدر بها، لو كانت تمثل المرأة العراقية عموما، كما تدعي، أن تعمل من أجل الكل لا أن تغطي جرائم جهة (من بينها جرائم المحتل) وتدين جرائم جهة أخرى، مما يكرس في حصيلة الأمر مفهوم العدالة الانتقائية (خلافا للعدالة الانتقالية) وأساسها تمييز النظام الطائفي في التعامل مع المواطنين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
في مثال قد يعكس سذاجة البعض، أرسلت شبكة النساء العراقيات (إطار نسائي غیر حكومي، كتجمع دیمقراطي مدني مستقل)، رسالة تهنئة إلى النائبة فيان دخيل بمناسبة نيلها جائزة «أنا بوليتكوفسكايا السنوية لعام 2014» التي تمنح للمرأة في مناطق الصراع، لأن فيان دخيل «عكست بمواقفها الشجاعة في المطالبة بحماية أبناء جلدتها من الإيزيديين والمسيحيين والشبك النازحين المحاصرين في بلدات وقرى محافظة نينوى، مثلاً رمزياً لشجاعة وإرادة النساء العراقيات في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي».
إن التناقض في صيغة تقدير الموقف من قبل الشبكة النسوية مثير للحيرة. فأن يقف المرء مطالبا بحماية أبناء من «غير جلدته» ومن مواطنيه هو الذي يستحق الإشادة، عادة، وإن كان، في حال نواب البرلمان، هو جزء لايتجزأ من صلب وظيفتهم. خاصة وأن واحدة من مشاكل البرلمان كونه يضم نوابا لاينطقون إلا إذا مست قضية ما أبناء عشيرتهم أو طائفتهم أو «أبناء جلدتهم» كما تنص رسالة الشبكة النسوية. بينما كان سبب اغتيال الصحافية الروسية أنا بوليتكوفسكايا، التي كان لي شرف معرفتها شخصيا، هو وقوفها ضد «ابن جلدتها» الرئيس الروسي بوتين لانتهاكه حقوق الإنسان ولأنه خاض حربا ظالمة بشعة ضد الشيشان، وانتقدت بقوة ترحيب الغرب بمساهمة بوتين في «الحرب على الإرهاب» وصمتهم على جرائمه. وهو الموقف ذاته الذي يسلكه الغرب، اليوم، تجاه النظام العراقي وانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان. وكان أن دفعت بوليتكوفسكايا حياتها ثمنا.
ولا أتذكر أن النائبة فيان، التي كان بإمكانها أن تكون قدوة حقيقية في الدفاع عن حقوق المواطن العراقي، وقفت وبكت يوما في البرلمان، كما فعلت من أجل أبناء جلدتها (وما تعرضوا له جريمة نكراء)، لما يلحق المواطنين من ظلم والمواطنات من اعتقال كرهائن لحين تسليم أقاربهن أنفسهم للقوات الأمنية.
ويتبين انعكاس التمييز على إدانة جرائم دون غيرها أو الصمت على ارتكابها، في ارتفاع أصوات ضحايا يقولون: «ماذا عنا»؟ لماذا الصمت على جرائم الاعتقال والتعذيب والقتل داخل المعتقلات والتهجير القسري؟ ماذا عن اغتصاب النساء والرجال الذي بات سمة النظام الحالي وتخريب النظام القضائي والفساد المستشري من أعلى شخص بالنظام إلى كل المؤسسات؟ هنا، عندما تواجه هذه الأسئلة الإنسانية الملحة إما بالصمت أو الاتهام الجاهز بالإرهاب، تكمن بداية الانقسام الحقيقي في المجتمع وتفكك بنيته، وبالتالي تفكيك البلد، ولمنظمات المرأة مسؤولية كبيرة في توسيع الهوة أو ردمها، خاصة وأنها تقدم نفسها كمنظمات غير حكومية.
أقول تقدم نفسها لأن أكبر المنظمات غير الحكومية، الآن، أما أنها حكومية بمعنى حصولها على الدعم المادي الحكومي الذي ستموت بدونه إن لم يكن صوتها صدى لسياسة الحكومة، أو أن مؤسسيها، وهذه ظاهرة تنتشر خاصة بين المنظمات النسوية، يعملون كمستشارين لمسؤولي الحكومة الكبار، ويتلقون رواتب مغرية، مما يتنافى مع أبسط شروط عمل المنظمات غير الحكومية.
من المؤسف أن نرى اليوم اقتصار نشاط العديد من منظمات المجتمع المدني، بضمنها المنظمات النسوية، على الترداد الببغائي لخطاب الجهات المانحة للتمويل المادي ووقوعها في فخ تضليل الحقائق بدلا من من السعي لمعرفة الحقائق وتسليط الأضواء عليها، ليصبح دورها امتدادا للنظام الطائفي الفاسد.
إن التغيرات السياسية والمجتمعية، بعد العاشر من يونيو/حزيران 2014 حيث استولى تنظيم داعش على مدينة الموصل وهجر سكان المناطق المحيطة، خاصة المسيحيين والإيزيدين، جسيمة وانعكست بقوة على حقوق الإنسان، في جميع أرجاء العراق. فازداد التهجير القسري وانتشرت معسكرات النازحين، ومعظمهم من النساء والأطفال. كما تشهد حملات الخطف والقتل الانتقامية تصاعدا يمس الجميع. أصبح المواطن محصورا ما بين إرهاب أمريكا والنظام وميليشياته من جهة وداعش من جهة ثانية. وفي غياب الدولة والقانون، بات ملاذ المواطن للبقاء على قيد الحياة هو أهون الشرور. ولن يستعيد المواطنون عافيتهم، ومحاربة الإرهاب بأنواعه، وبناء ما تهدم واستعادة اللحمة الاجتماعية إلا بعملهم على تشكيل حكومة وطنية تسعى لتمثيل الشعب كله، رجالا ونساء، على أسس العدالة والمساواة، وليس الميليشيات وداعش والحشود السائبة، وليس بالتأكيد من خلال توسل الحماية بالقوات الأجنبية.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة