نثْرُ الرياحينْ على ضريحِ شيخِ المُجاهدينْ / د. بلال فيصل البحر
14 /03 /2015 م 03:07 مساء الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:
فقد آلـمنا وفجعنا رحيلُ عالم المجاهدين، ومجاهد العلماء العاملين، الشيخ حارث الضاري -رحمه الله-، في وقت تشتدّ حاجةُ العراق بَلْ الأمة إلى مثله. ذلك أن فقدان الرجال الذين يُستنار بـهم ويُستضاء، وتنهض الأمم بـهم إلى العلياء، أشد ما يكون من الوقع الأليم، على نفس الحر الكريم، كما قال نفطويه رحمه الله:
شيئانِ لو بَكَتِ الدماءَ عليهما....عينايَ حتى يؤذِنا بذهابِ
لمْ يبلغا المعشارَ من حقيّهما....فقدُ الشبابِ وفُرْقةُ الأحبابِ
وقال لبيد رضي الله عنه:
إن الرزيةَ لا رزيةَ مثلها....فقدانُ كلِّ أخٍ كضوء الكوكبِ
وعزاؤنا فيهم أن أمةً تستهدي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لن تُستباح ولن تُستذل، وقد أخرج ابن ماجة بسند جيد عن أبي عِنَبة الخولاني -رضي الله عنه- وكان ممن صلى القبلتين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ).
وحكى أبو نصر الواعظ أنه وجدَ على الأستاذ أبي سهل الصعلوكي حين توفي، وحزن عليه أشدّ الحزن وتألَّم لفراقه.
ثم اتّفق أنه نام من ليلته تلك، فرأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في منامه وهو مع بعض أصحابه قاصداً عيادةَ الأستاذ أبي سهل، قال: فتبعتُه ودخلتُ عليه معه وقعدتُ بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم متفكراً وقلتُ: إنّ هذا إمام أصحاب الحديث وإنه إنْ ماتَ أخشى أنْ يقع الخللُ فيهم.!
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَا تُفكّر فى ذَلِك، إِن الله لَا يُضيّع عِصَابَة أَنا سَيِّدها).
ولاريب أن للشيخ حارث بن سليمان بن ضاري المحمود -رحمهم الله- من الفضل والبلاء في الجهاد والدعوة والعلم، ما لا يدفعه نبلاءُ الرجال وفضلاؤهم وعقلاؤهم، حتى من يخالفه في مواقفَ وقضايا معينة، فإنه عميد المجاهدين بالعراق، وركن الرجال الأفذاذ الذين قامت على سواعدهم رايةُ المقاومة بالعراق ونفقت سوقها.
إنـها محنة عالم مجاهد، تكلَّم في ثَلْبِهِ بالظِّنِّة، من انقلبتْ عنده المفاهيم، في عصر أضحى فيه المجاهدون أهل الثغور الذابّون عن الأرض والعرض، عرّابون للقتل.!.
ولا عيبَ للرجل عند هؤلاء سوى أنه أبى الضيم، وردَّ عن دينه وأهله وعشيرته العدوان، فهو كما قال عامر بن الطفيل:
وإني وإنْ كنتُ ابنَ سيّد عامرٍ...وفارسَها المشهور في كلِّ موكبِ
فما سوَّدتني عامرٌ عن وراثةٍ........أبى اللهُ أنْ أسمو بأُمٍ ولا أبِ
ولكنني أحمي حِـماها وأتقي.....أذاها وأرمي مَنْ رماها بـمَنْكِبي
وأمّا التاريخ فسيذكره ويعرفه حيثُ تنكَّر له دعاةُ السياسة الرعناء، التي طالما دعا الشيخُ -رحمه الله- لنبْذها، إذ لم يجنِ العراقُ وأهلُه منها إلا القهرَ والفقرَ الذي فاق التصوّرَ وجاز الحدّ، فهم يتخبطون فيها على حدّ قول شيخُ المعرّة:
يسوسونَ الأمورَ بغير عقلٍ......فينفذ أمرهمْ ويُقالُ ساسةْ
فأُفَّ من السياسة وأُفَّ منهم...ومن قومٍ رئاستُهم خساسة
ْ
وسيعرف فضلَه الكملةُ من الفضلاء، والعراقُ الذي إنْ نسيَ فلن ينسَ أنه أبى أن يـمدَّ يده للمُحتَلّ، شأنه شأن السادة الأحرار.
وستعرف له أمريكا، كما عرفتْ لجدّه ضرّتـُها من قبل، أنه الذي:
شفاها من الداءِ العُضال الذي بـها ... غلامٌ إذا هزَّ القناةَ سقاها
أليس هو ابن الأسد الضاري.؟ وابن من قالت عنه القَوَلةُ: (هز لندن ضاري وبجاها).؟.
قدَرٌ عجيبٌ هذا الذي أوقع الضرّتين بين فك الضاريين.!.
بالأمس شدَّ جدّه كالصقر على الكولونيل لجمن قائد قوات الاحتلال البريطاني الغازي للعراق، في عشرينات القرن الماضي، حين ظفرَ به في خان النقطة، فقَتَله اللهُ وأخـمَدَه بسيف الضاري.
واليوم ينتدب الكريم ابن الكريم للذب عن دينه ووطنه أسوة بآبائه، فعلى مثل هؤلاء السادة تبكي البواكي:
أنامُ على سهوٍ وتبكي الحمائِمُ......وليسَ لها جُرْمٌ ومنِّي الجرائمُ
كذبتُ وبيْتِ اللهِ لوْ كُنتُ عاقلاً....لـما سَبَقَتْنِي بِالبُكاءِ الحمائمُ
فما تُنكرُ أيها المتكايسُ ذو الورع البارد من فضله وشرفه.!
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ...من اللومِ أو سُدّوا المكانَ الذي سدّوا
فما أنتم والشيخ إلا كما قيل:
ما يضرُّ البحرُ أمسى زاخراً...أنْ رمى فيه غلامٌ بحجر
كيف وقد أُغريَ بالجاه والمال فآثر الآخرةَ والبعدَ عن الأهل والدار، أسوة بالعلماء المجاهدين الذين لا يكاد يُعرف لهم في هذا العصر ذكر أو أثر، حتى أذكَرَنا بـهم مثل هذا الفحل الضاري فهو كما قال السُّرَّمَرّي:
إمامُ صدقٍ له في الفضل مرتبةٌ...شما بمعجمه فيها ومعربهِ
بدَتْ له زينةُ الدنيا وزهرتـُها........فردّها وتمادى في تجنّبهِ
وغيره بذلَ الدينَ المـُكرَّم في ... تحصيلِها وتناهى في توثّبهِ
فشيخُنا ترك الدنيا وزينتَها...وخصمُه من هواها في تعذّبه
ِ
وقد مضى الرجل على قدم القلائل من نوادر العلماء ونبلائهم، ممن جمع الله لهم العلمَ والسيف، وأحيا الله بـهم مآثر العلماء المجاهدين التي تنوسيت في عصرنا أو كادت، ماثلةً فيهم، كالشيخ أحمد ياسين والشيخ عبد الله عزام ونظرائهما في هذا العصر، ومن كان قبلهم كالشيخ عز الدين القسّام والأمير عبد القادر الجزائري والشيخ عمر المختار والخطّابي وغيرهم.
ومَنْ قبلَهم كالسيد العارف بالله أبي الحسن الشاذلي -رضي الله عنه-، الذي كان قائد موقعة المنصورة التي أُسِرَ فيها الملك لويس التاسع عشر، مع أنه كان أعمى.!.
وقد قاتل معه فيها تحت لوائه سلطان العلماء العز ابن عبد السلام وصاحبه العلامة المجتهد شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد.
ونظيرها موقعة بالأندلس يقال لها (معركة الفقهاء) لأن ثلاثةً من أعيان الفقهاء قاتلوا فيها وهم أبو محمد بن حزم وأبو الوليد الباجي وأبو عمر بن عبد البر.
وكأبي العباس بن تيمية شيخ الإسلام الهمام فارس موقعة شقحب.
وكالفقيه الشهيد ذي التسعين عاماً أبي الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي المالكي الذي خرج لقتال الفرنج ماشياً، فرآه الأمير وقد لحقته مشقةٌ من المشي، فقال له: أيها الشيخ الإمام، ارجع، فأنت معذور للشيخوخة.!
فقال الفندلاوي رحمه الله: لا أرجع، بِعْنَا واشتُريَ منّا، يريد قولَ الله عزّ وجل (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..)، [التوبة 111] فما انسلخ النهارُ عنه حتى حصل له ما تمنَّى من بلوغ الشهادة التي توصله إلى ما يرجو من السعادة.
فأينَ هذا الضرب من العلماء اليوم.؟ إنـهم أعزّ من عنقاء مُغرِب.!
لاتعرضَنَّ بذكرنا معَ ذكرهم...ليس الصحيحُ إذا مشى كالـمُقعدِ
عجبتُ لشهم مثله..! لم يثنِه طعن قادح، ولا ردح مادح، أن يمضيَ في مشروعه، وإنفاذ ما يعتقده صواباً حقاً نافعاً لدينه ووطنه، غير هيّاب ولا مبالٍ بكثرة الناكبين الناكثين، فهو كما قال ابن بشر:
اعملْ لنفسك صالحاً لاتحتفلْ...بكبير قيلٍ في الأنام وقالِ
فالناسُ لايُرجى اجتماع قلوبـهم...لابدّ من مُثنٍ عليك وقالي
ومن عرف الشيخ استيقن ما كان عليه من همة عالية، وعزيمة ماضية، وصبر على شدائد الدهر، وشعاره قول أبي الحسن النُعيمي:
إذا أعطشتَك أكّفُّ اللئام...كفتْكَ القناعةُ شبعاً ورِيّا
فكُنْ رجلاً رجله في الثرى...... وهامَةُ هـمّتِهِ في الثُريّا
أبيّاً لنائلِ ذي ثروةٍ.............. تراه بما في يديه أبيّا
فإنّ إراقةَ ماء الحياة.......... دون إراقةِ ماء الـمُحيّا
ومن مآثر الشيخ ومواقفه المشهودة ذبُّه عن سُنّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وتصنيفه في ردّ مطاعن الحاقدين على أبي هريرة -رضوان الله عليه-، ودفاعه عن السنة ورواتـها من الصحابة والتابعين إبان أستاذيته بكلية الشريعة بجامعة بغداد، حين رامَ بعضُهم التشغيبَ ببعض الشُّبه الواهية، والأوهام الخاوية، في أطروحة تقدَّم بـها لنيل درجة الدكتوراه في الحديث وعلومه بالكلية المذكورة، يستجلبُ بالطعن فيها على السلف الأول، محمدةَ من خذله الله في الدنيا والأخرة، معتمداً على ما تحصّل عليه من المقام والحُظوة عند الدولة.
فآب من قصده الأدنى بأخيبه، بفضل بلاء الشيخ وإخوانه من العلماء الذين انتدبوا للوقوف بوجه هذا الطاعن المعثار، حتى لحقهم جرّاء ذلك الأذى.
وأذكر أيضاً أنه كان أحد أعلام الكلية الذين سعوا عند الجهات المسئولة، في تعميم الحجاب على طالبات الكلية خاصة، وطالبات الجامعة عامة، فتحقق لهم شطر مطلبهم، وفُرض الحجاب على طالبات كلية الشريعة.
إنـها دمعة الفراق، على عميد المجاهدين بالعراق، رحمه الله وجزاه عن دينه ووطنه وأمته وقومه خير الجزاء، ومنحه بكل مسرة وهناء، وإنا على فراقك لمحزونون، ولفقدك ورحيلك صابرون.
وأستميح أبا حيّان الأندلسيَّ عذراً أنْ أستحضر أبياته التي قالها في تقريظ شيخه الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، فأنشدها في شيخ المجاهدين بالعراق، فإنه بـها حقيق، وبما اشتملت عليه من المعاني خليق:
أخي إنْ تصلْ يوماً وبُلّغتَ سالماً....لعمّانَ فافطنْ لما أنا عاهده
وقبّلْ ثرى أرضٍ بـها حلَّ شيخُنا...وفارسُنا الشهمُ الجميلُ عوايده
مُبيدُ العِدا قتْلاً وقد عمَّ شرُّها...ومحيي الندا فضلاً وقد رَمَّ هامده
أفاض على الإسلام جوداً ونجدةً........فعزَّ مواليهِ وذَلَّ معانده
جزى الله عنّا شيخَنا وإمامَنا.....وأستاذَنا الفذَّ الذي عمَّ فايده
وإني وإنْ شطَّتْ بنا غُربةُ النوى...لشاكره في كلّ وقتٍ وحامده
وإنما كتبتُ هذه العُجالة التي سنح بـها الخاطر على قلّة صحبتي للشيخ ومعرفتي بمآثره ومناقبه، وفاءً لرجالنا وقادتنا وعلمائنا، وقياماً ببعض ما لهم من الحق علينا، على حدّ قول نفطويه النحوي: (قليلُ الوفاء بعد المماتْ، خيرٌ من كثيره وقتَ الحياة).