العراق... مرارة النزوح الدِّيني والمذهبي
مأساة مستمرة كانت نتيجة ظروف سياسية واجتماعية قاهرة فرضت على العراقيين بكل أطيافهم الدينية والمذهبية وجعلتهم يعانون بطريقة مأساوية وبعيدة عن الاستقرار الأمني لفقدان الأمن وأدنى مقومات العيش.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: علي عبد الرحيم صالح
النازح يتحول إلى مواطن من الدرجة الثانية بلا حقوق
تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة عام 2006 حول النازحين في العراق أن هناك شخصاً من كل تسعة عراقيين إما ان يكون نازحا في داخل العراق او نازحا الى خارج العراق، وتقدر هذه المنظمة أن هناك أكثر من 1.9 مليون عراقي نازح في داخل العراق و أكثر من مليوني نازح في الدول المجاورة، وأكثر من 200 ألف في الدول الاجنبية، في حين ارتفعت نسبة النازحين في داخل العراق عام 2014 وفق تقارير لجنة حقوق البرلمان النيابية العراقية الى اكثر من ثلاثة ملايين نازح يتوزعون على سبعة عشر مخيما بالعراق وغالبيتها في إقليم كردستان ومحافظة بغداد .
إن هذا النزوح في العراق لم يأت من رغبة السكان في الرحيل الى مناطق سكنية اخرى او لظروف بيئية قاهرة كما في أزمة الفيضانات والزلازل والبراكين، بل ان العراقيين نزحوا نتيجة ظروف سياسية واجتماعية قاهرة فرضت عليهم وجعلتهم يعانون بطريقة مأساوية وبعيدة عن الاستقرار الأمني. وهو الامر الذي يجعل العراقيين يواجهون تحديات جديدة، ويختبرون ظروفا صعبة اكثر مما عاشوها في السابق .
النزوح بوصفه أزمة الأزمة هي أي حدث بيئي او اجتماعي طارئ تواجهه الجماعة وليس لديها القدرة والامكانية على مواجهته والتغلب عليه بإمكاناتها المحدودة وفي الظروف الحالية، مما يجعل الجماعة تعاني حالة من الفوضى وعواقب امنية واجتماعية وصحية وسلوكية قاهرة، مثل عدم الاستقرار الامني والتدهور في الحالة الاقتصادية والصحية وخسارة الكثير من الموارد المادية والبشرية . وبما أن النزوح الذي حدث في العراق عبارة عن حدث طارئ لم يكن العراقيون يتوقعونه في يوم ما او يتهيؤون له بشكل جيد، ظهر هذا السلوك (النزوح) بوصفه سلوكا بديلا لمواجهة الازمة الراهنة، فعلى سبيل المثال نزح الكثير من العراقيين بعد عام 2003 من مناطق سكناهم بوصفه سلوكا بديلا للتخلص من مرارة القتل الطائفي (ما يطلق عليه بالقتل على الهوية) والرفض القومي بدلا من الامكانية والقدرة على معالجة هذه الازمة بصورة منطقية او سلمية بين الاعراق والمذاهب الدينية الموجودة في العراق، وهو ما يشير الى ان العراقيين لم يكن لديهم الاستعداد والبدائل الكافية لمواجهة أزمة التعصب المذهبي والقومي.
النزوح الإثني والمذهبي في العراق رغم فترات التعايش السلمي بين القوميات والاقليات والمذاهب الدينية التي مر بها العراق لسنوات من الزمان، إلا أن العراقيين واجهوا أعنف مراحل التهجير والنزوح القسري سواء كان ذلك بواسطة أزلام النظام السابق او على يد الجماعات الاسلامية المتطرفة بعد سقوط النظام . ويمكن تحديد انواع النزوح الذي ظهر في العراق بالآتي:
- النزوح السياسي: يتمثل بهجرة الكثير من العراقيين من الذين هربوا او تم طردهم من العراق من قبل النظام السابق او النظام السياسي الحالي.
- النزوح الداخلي مقابل النزوح الخارجي : ويتمثل بهجرة ابناء القوميات والمذاهب الدينية والاقليات العرقية الى مناطق اخرى تتقبل هويتهم الاجتماعية في داخل العراق (واكثرهم من الكرد، وابناء المذهبين الشيعي والسني) مقارنة بالهجرة والنزوح الى دول خارج العراق (واكثرهم من ابناء الاقليات الدينية، كالمسيح والأيزيديين والصابئة واليهود) .
- النزوح والتهجير القومي: ويتمثل في قيام احدى القوميات بطرد واستبعاد ابناء قومية اخرى في ضوء تهديدهم بالنزوح من مناطقهم الى مناطق سكنية اخرى. على سبيل المثال قام النظام السابق بعمليات نزوح قهرية للقومية الكردية من محافظة كركوك واستبدالهم بمواطنين عرب.
- النزوح الديني المذهبي: ويتمثل في قيام احد المذاهب الدينية بترحيل ابناء المذهب الديني المخالف له في العقيدة الدينية من مناطق سكناه، واستبدالهم بأفراد من ذات المذهب. وهذا ما شهدته محافظة بغداد والمناطق الغربية والوسطى من العراق في ضوء تهديد بعض المليشيات الدينية المسلحة للمذاهب المخالفة لها في مناطق سكناها.
-النزوح الداعشي: ويتمثل بقيام عصابات الدولة الاسلامية (داعش) بطرد وقتل الافراد الذين يختلفون معهم في الدين والمبدأ والايدولوجية السياسية.
سيكولوجية النزوح ومرارة العيش إن النزوح الذي يحدث الآن في العراق ليس عبارة عن رحلة يقوم بها الناس للتعارف والاطلاع على المناطق السكنية الاخرى بل هو سلوك حياتي ناجم عن الفرار من الموت وظرف امني طارئ فرض على الناس بصورة قهرية . وبما ان الناس فروا من مناطق سكناهم بصورة مفاجئة ومن دون اية استعدادات بسيطة لرحلة النزوح، فإن النازحين الآن يواجهون ظروفا قاهرة تتمثل بعدم توفر ابسط المقومات الاساسية للحياة ومقاومة الظروف السيئة للعيش، إذ يواجه النازحون الآن وفق تقارير منظمات الصحة العالمية والعراقية الكثير من المهددات والامراض الاجتماعية.
فبعد أن كان النازحون يعيشون في بيئة اجتماعية مستقرة ومنظمة قبل نزوحهم، فهم الآن يعيشون حالة من البطالة والفقر والتسول والعيش في معسكرات غير مؤهلة للسكن، ويواجهون حالة من العنف والرفض المجتمعي من قبل ابناء المناطق الجديدة، فضلا عن ذلك تفيد التقارير ان النازحين يتعرضون للكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، مثل استغلال النساء وعمالة الاطفال وعدم توفر حقوق كافية للتعليم وإصابة الكثير منهم بالامراض الجسمية المعدية والاضطرابات النفسية (تشير تقارير الصحة العالمية ان اكثر الاضطرابات النفسية التي يعانيها النازحون هي : ارتفاع مظاهر الاكتئاب، واضطراب ما بعد الضغوط الصدمية، وارتفاع معدلات الانتحار في مخيمات النازحين، وإدمان المواد ذات التأثير النفسي).
وبهذا الصدد تشير مفوضية حقوق الانسان في العراق عام 2014 إلى ان 2,7 مليون طفل واكثر من 1,3 ميلون نازحة عراقية يعانون من ظروف الحرب والتهجير، ويوجد اكثر من 4000 امرأة مسبية ومغتصبة من قبل داعش والجماعات الاسلامية المتطرفة، ووفاة اكثر من 1500 طفل عراقي في مخيمات النازحين بالعراق، وتعتقد المنظمة أن 7000 طفل عراقي تعرضوا للإصابة والقتل وحتى الإعدام.
أما في ما يخص حادثة النزوح الاخيرة في الانبار فيشير تقرير منظمة الامم المتحدة واليونسيف إلى ان اكثر 79,810 عائلة نزحت من الانبار باتجاه بغداد والمحافظات الوسطى بواقع 52% من الاناث و48% من الذكور بمتوسط عمري لا يتجاوز 25 سنة. ويشير التقرير ايضا إلى ان هناك اكثر من 35 ألف طفل انباري معرض لخطر الموت، وان 76% من اهالي الانبار تنقصهم الامكانية المالية لشراء الغذاء والدواء او السكن.
النازح بوصفه مواطناً من الدرجة الثانية بعد ان كان النازح يعيش حياة كريمة في منطقة سكناه، اصبح اليوم يعاني من وصمة اجتماعية كبيرة، وذلك بوصفه شخصا مشردا ودخيلا او مواطنا من الدرجة الثانية، إذ يشتكي اكثر النازحين (وفق دراسات ومقابلات صحفية) من الاهمال والاذلال والنظرة الدونية وإلقاء اللوم عليهم بدلا من مساعدتهم، فضلا عن ذلك واجه العديد من النازحين الإقصاء والرفض الاجتماعي وعزلهم في مخيمات بعيدة عن المناطق المركزية للمحافظات. ولم يتوقف الامر على هذا الحد.
بل أصبح النازحون يعانون من عدم الاحترام والازدراء وكثرة المضايقات الكلامية والجسدية والعزلة الاجتماعية عن ابناء المناطق الجديدة . ويمكن تفسير ذلك ان النزوح الجماعي الكبير الذي حدث نحو المحافظات الاخرى جعل النازحين يتنافسون مع ابناء هذه المحافظات على لقمة العيش وفرص العمل، فضلا عن ازدياد الزحام السكاني وارتفاع ايجار السكن وأسعار المواد الغذائية وكثرة العشوائيات السكنية . وبما أن ابناء المحافظات (المستقبلين) هم في الاصل من الفقراء وذوي الدخل المحدود فإن هذا التنافس والصراع مع النازحين جعلهم يشعرون بالاستياء والامتعاض منهم (لأنهم سبب ذلك)، مما دفع ابناء المحافظات الى الاحتجاج وإبداء مشاعر الرفض وعدم الترحيب بالنازحين الجدد.
هذا الأمر ينذر بوقوع المزيد من الازمات والكوارث الاجتماعية، إذ تدل التجارب والدراسات النفسية والاجتماعية على ان كثرة الزحام والتنافس السكاني على الغذاء والسكن وفرص العمل يمكن أن ينجم عنه ارتفاع جرائم القتل والدعارة والتسول وتشكيل عصابات الخطف والنهب .
النزوح وأزمة التحدي إن هذه الأزمة المريرة تضع النازحين امام تحدٍّ كبير، فمن جهة يتعرض النازحون لرفض المجتمع ومخاطر الجوع والتشرد ونقص الاموال ومن جهة ثانية لا يستطيعون الرجوع الى مناطق سكناهم التي طردوا او هربوا منها خوفا من بطش الجماعات الاسلامية المتطرفة، وبين هذين الموقفين نجد ان الحكومة العراقية عاجزة حاليا عن التصدي للأزمة ومحاولة التغلب عليها بسرعة كبيرة . هذا الامر يضع العراق امام أزمات نفسية واجتماعية خطرة، مما يستوجب علينا بوصفنا مواطنين عراقيين بأن نتكاتف لعبور هذه الازمة، وان نضع حلولاً ناجعة لحل هذه الازمة، والتي يمكن ان تبدأ في معالجة الجذور الاساسية لمواطن التعصب بين الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية في العراق، سواء كانت لدى المستقبلين (أبناء المحافظات) أو النازحين الجدد، فضلا عن ذلك يجب على الحكومة العراقية ان تتحرك بسرعة نحو إسعاف النازحين بالغذاء والمأوى والتعليم، وأن تعمل على تطوير برامج اجتماعية تعمل على حث ابناء المحافظات وتغيير افكارهم وصورهم النمطية نحو ابناء النازحين والاقليات الاخرى من اجل دمجهم في بناء اجتماعي متكامل، ويمكن ان يتم ذلك عبر (الزواج، والعمل، ومشاركة السكن، ومدارس التعليم)، لأن من شأن هذه البرامج ان تقلل الصور النمطية السيئة عن النازحين، ومحاولة إشراكهم مرة اخرى في البناء الاجتماعي للبلد وأن تقلل من الآثار الاجتماعية السيئة للنزوح. وبذلك يمكن القول ان التعايش السلمي في ضوء التصالح والقبول بين كل الأطراف والجماعات العراقية يمكن أن يجعلهم يشعرون بهوية عراقية واحدة بعيداً عن مواطن التشتت والاختلاف التي نشأوا عليها.
علي عبد الرَّحيم صالح أكاديمي وباحث نفسي عراقي