ماذا لو جرت الانتخابات البريطانية في العراق؟ / هيفاء زنكنة
12 /05 /2015 م 01:15 مساء كانت ليلة الخميس الماضي مذهلة بالنسبة إلى متابعي الانتخابات العامة البريطانية.
إذ جاءت النتائج منافية لكل التوقعات السياسية والإعلامية ومراكز استطلاع الرأي العام، العريقة، التي يصفها البعض بأنها مثل جلجامش «الذي رأى كل شيء» بمعنى أنها تعرف كل شيء عن المصوتين، من أصولهم الأثنية الى نوع الزبدة التي يحبون تناولها، ناهيك عن مواقفهم السياسية وتفضيلهم انتخاب حزب أو مرشح دون غيره.
وأنا أراقب عملية التصويت، ومن ثم البدء بفرز الأصوات، لحظة انتهاء التصويت، عبر البث التلفزيوني المباشر، وما حمله إعلان النتيجة تلو النتيجة في أرجاء المملكة المتحدة من مفاجآت غير متوقعة، من خسائر ونجاحات، وصعود مرشحين وهبوط آخرين، عشت حالة مقارنة مع حال الانتخابات العامة العراقية التي شهدناها منذ الاحتلال عام 2003م.
ما استدعى حالة المقارنة بالدرجة الأولى هو توصيفها في كلا البلدين، بأنها انتخابات تتم في ظل نظام ديمقراطي، ولن أدخل هنا في مقارنة هيكلية ومسار وقوانين نظام الانتخابات البريطاني مع العراقي، إذ سيبدو الإجحاف واضحا، فالأول نظام عريق في بلد بدولة لها مؤسساتها التي يتبدل الأفراد فيها ولا تتبدل، بينما الثاني حديث الولادة في بلد بلا دولة ولا مؤسسات بل أفراد تم تفصيل المؤسسات على قياسهم.
بالإضافة إلى المفارقة الأساسية في التوصيف فبريطانيا بلد إمبريالي احتل العراق مرتين خلال القرن العشرين وساهم في تحطيمه على كل المستويات.
ولن أتطرق إلى سيرورة الانتخابات أو أنواع الضغوط والإغراءات التي يتعرض لها المواطن العراقي خاصة، بل ستكون نقطة المقارنة عن لحظة إعلان نتائج الانتخابات، وردود افعال المرشحين الخاسرين منهم والفائزين، وبالتالي ردود أفعال الأحزاب التي ينتمون إليها، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة وعلاقتها بالمواطن.
في الانتخابات البريطانية، استقبل كل المرشحين إعلان نتائج فوزهم أو خسارتهم بهدوء واحترام لبقية المرشحين في حال فوزهم وبروح معنوية عالية في حال خسارتهم.
كان من بين المرشحين المتنافسين على (650) مقعدا، رؤساء أحزاب ووزراء حكومة ووزراء ظل ونواب برلمان، على مدى عقود، جنبا إلى جنب مع مرشحين شباب جدد، أصغرهم كانت طالبة جامعية اسكتلندية في العشرين من عمرها.
اللافت للنظر، في مواقف الخاسرين، سواء كانوا من حزب العمال الذي كان من المتوقع ان يقف على قدم المساواة مع حزب المحافظين الحاكم في المنافسة على تشكيل الحكومة، أو من الحزب الديمقراطي الليبرالي، ويشمل ذلك بعض قادة الحزبين، هو تضمن خطاب التنازل الذي لا يزيد عن دقائق معدودة.
أولا: تهنئة الفائز/الفائزة على الانتخاب، وثانيا: التطرق إلى فشله والدعوة الى البحث في أسباب الفشل على المستويين الشخصي والحزبي؛ مما يعني في لحظات الفوز المشحونة بالعواطف وقمة الجهد المبذول على مدى شهور، أن لم يكن سنوات، للحصول على أصوات الناس، أنه إقرار مطلق باحترام اختيار المصوتين واعتراف بأن الخسارة مردها ليس الشعب بل النخبة السياسية وابتعادها عن تمثيل ما يريده الشعب.
هذا الإقرار باحترام حرية الاختيار هو جوهر الانتخابات الديمقراطية، وهو الذي دفع ثلاثة من رؤساء الأحزاب البريطانية الى الاستقالة من رئاسة أحزابهم، وهم: أد ميليباند، رئيس حزب العمال (على الرغم من فوزه بـ 232 مقعدا)، و نك كلغ، رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي فقد (38 مقعدا)، ونايجل فاراج، رئيس حزب استقلال المملكة المتحدة، بعد أن فشل في الاحتفاظ بمقعده في دائرته الانتخابية. هكذا اعترف الثلاثة بمسؤوليتهم، وكان رئيس حزب العمال الذي طالما حكم البلاد، هو الأول، قائلا إنه يتحمل « المسؤولية كاملة عن هزيمة حزبه في الانتخابات».
بالمقابل، لم يحدث واستقال مسؤول حكومي بالعراق . كل مسؤول ملتصق بكرسيه حتى آخر عراقي، استنساخا لما قاله رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بأنه سيقاتل، دفاعا عن الامبراطورية، حتى آخر هندي. ومن الصعب ايجاد شبيه لمجريات الانتخابات « الديمقراطية» في العراق الجديد.
فالوجوه هي ذاتها التي دخلت مع المحتل أو تعاونت معه، والانتخابات بمجملها عبارة عن لعبة كراسي ولسان حال كل سياسي يقول لن أتخلى عن هذا المقعد ما لم توفروا لي مقعدا آخر.
نتائج الانتخابات، لا تعلن إلا بعد مضي أشهر، وتشكيل الحكومة يمر بمخاض من الصراعات والتفجيرات الدموية والتخويف الميليشياوي، بالإضافة إلى شكاوى التزوير التي وصلت، أثناء الانتخابات الأخيرة، إلى (ألفي) شكوى بعد إعلان النتائج الأوليةن ولا تعلن النتائج النهائية حتى تفرض التحالفات طائفيتها السياسية حسب درجة فسادها وسيطرتها على الوارد النفطي، ولا تنسوا مكافأة من تسببوا، أثناء حكمهم، بحملات الإبادة وسرقة المليارات، بمناصب تتيح لهم مواصلة ذات المنوال، ولنا في إعادة تأهيل نوري المالكي وحزبه أفضل مثال.
أما مقارنة موقف السياسي البريطاني بنظيره العراقي لحظة خسارته الانتخابات، فيستدعي جلسات عزاء للطم الوجوه والصدور معا؛ إذ يسارع الخاسر لاتهام الفائز بالتزوير ثم نراه بعد فترة وجيزة محتلا لمنصة النواب، خارج قاعة البرلمان، داخل المنطقة الخضراء، وهو يكيل الاتهامات لمنافسه، تليها لقاءات على عشاء دسم مع أعضاء حزبه أو تحالفه للاتفاق على استراتيجية تشويه ناجحة لخصومه.
ولا تكمل الصورة بدون أن يرابط الخاسر في استديوهات الفضائيات لإجراء مقابلات لا حصر لها، يهدد ويتوعد فيها بكشف «ملفات» تفضح فساد منافسه ومشاركته بـ «عمليات ارهابية» تستهدف تقويض «الديمقراطية» بالعراق.
يستمر مسلسل التهديد والتشويه، على مدى شهور، حتى يضطر الطرف الآخر، على إجراء اتفاق يتيح للطرفين أو الاطراف (الشيعي والسني والكردي حسب التوصيف الرسمي) تقاسم الكعكة، وعلى الأغلب تحت ضغوط أمريكية أو ايرانية أو الاثنين معا.
ويعتبر فوز القائمة العراقية، برئاسة اياد علاوي، بانتخابات عام 2010م، وخسارة ائتلاف دولة القانون، التابع لرئيس الحكومة، نوري المالكي، نموذجا لا يضاهى في رفض نتائج الانتخابات إذا لم تكن لصالح الطرف الأقوى، فبدلا من ان يهنأ المالكي علاوي وينسحب من منصبه، ادعى أن النتيجة مزورة «وأن جماعة مجاهدي خلق، قد استخدموا الأقمار الاصطناعية للتلاعب بالحواسيب المستخدمة لعد أصوات الناخبين»، حسب أما سكاي التي توجهت مع الجنرال الأمريكي أوديرنو للقاء المالكي وتهنئته على إجراء الانتخابات.
يبدو مما تقدم أن مفهوم وتطبيق الديمقراطية يختلف من بلد الى آخر ، ففي بريطانيا، تعتبر الانتخابات الحرة النزيهة وجه من أوجه الديمقراطية بينما تقدم الانتخابات، بالعراق، إلى الشعب والعالم باعتبارها هي الديمقراطية مهما كانت درجة تزويرها والتلاعب بها، فمن المستحيل، مثلا قبول التنفيذ العراقي للانتخابات ببريطانيا وأمريكا، إلا أن الحكومتين لا تجدان غضاضة في تهنئة الشعب العراقي المسكين على مهزلة الانتخابات ونتائجها المفروضة عليه مع علمهما بأن ما يجري مجرد ملهاة دموية.
الأدهى من ذلك، أن معظم ساسة العراق الحاليين، الملتصقين بمقاعد الحكومة والبرلمان بالغراء، هم ممن قضوا عقودا في الدول الأوروبية وأمريكا وبريطانيا، وطالما غردوا المديح لديمقراطية بلدان اللجوء وتشدقوا برغبتهم بتطبيق ذات الديمقراطية بمجرد حصولهم على المساعدة لتغيير النظام غير الديمقراطي وصعودهم بديلا عنه.
فما الذي حدث؟ كشفوا الأقنعة عن سياسة تهدف إلى تقسيم البلد وإهانة شعبه عبر الاستماتة بروح الانتقام والفساد والصراعات الدموية التي تُبعد الناس، يوما بعد يوم عن المحافظة على التوازن العقلي والجسدي.
وبدلا من مراجعة مواقفهم (كما رأينا في انتخابات بريطانيا) وبحث أسباب التدهور نحو القاع الذي قادوا الناس إليه وتحمل المسؤولية، نراهم جميعا يقفون على المنصات متوهمين بأنهم أعلى من الشعب، ليلوموا الشعب على عدم فهمه الديمقراطية التي يبيعونها إليه، متعامين عن حقيقة أن الديمقراطية في غياب الدولة الوطنية وحقوق المواطنة، عبارة عن تعليب فاسد لها، وهذا سبب رفض الشعب لهم ولها.