عقدة وزيرة الداخلية البريطانية وشيطنة طالبي اللجوء
هيفاء زنكنة
عقدة وزيرة الداخلية البريطانية وشيطنة طالبي اللجوء
للمرة الأولى، منذ فترة طويلة، احتل بلدان عربيان حيزا في النقاشات الدائرة بحرارة في مجلس العموم البريطاني ومجلس اللوردات.
جاء ذكر البلدين أثناء إدلاء وزيرة الداخلية بريتي باتيل في 15 حزيران / يونيو ببيان حول ما أسمته «شراكة الحكومة الرائدة عالميًا في مجال الهجرة والتنمية الاقتصادية مع رواندا». بعيدا عن العنوان «الحضاري»، تهدف هذه «الشراكة» إلى وضع حل لمنح حق اللجوء لمن تصفهم باللاجئين غير القانونيين، وإرسالهم بدلا من ذلك إلى رواندا. وقد تكرر ذكر العراق وسوريا باعتبارهما من البلدان المُصّدرة للاجئين، فقط لا غير. كالعادة، بدون التطرق إلى الأسباب ومن هو المسؤول عن المأساة.
تبرر باتيل إصرارها على تنفيذ خطة الترحيل، على الرغم من كل الاعتراضات القانونية والإنسانية، بأنها إنما تُنفذ بذلك ما «صِّوت له الشعب البريطاني مرارًا وتكرارًا» وأن ما تقوم به هو الاصغاء لما يريده الشعب. وادعاء الاصغاء للشعب، خدعة قديمة، معروفة إلى حد الابتذال، إلا أنها لا تزال سارية المفعول، يمارسها عديد السياسيين حين يواجهون معارضة قوية لقراراتهم. وهو التبرير الذي تُفضل باتيل التعكز عليه، خاصة بعد صدور قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، بإيقاف مغادرة الطائرة الأولى المغادرة إلى رواندا وعلى متنها عدد من طالبي اللجوء، ومنع عملية ترحيلهم. من بين الذين كانوا على وشك الترحيل إلى رواندا سوري وعراقي، لم يُثر وجودهما أكثر من ذكر عابر.
أثار الحكم غضب باتيل فوقفت في مجلس العموم لإلقاء بيانها المكتظ بالتضليل والعنصرية. وكما يقول عالم الاجتماع الأمريكي دي شان ستوكس «عندما تتعامل مع محتالين وكذابين، أصغي إلى ما لا يقولونه أكثر مما تصغي إلى ما يقولونه». فما الذي لم تقله باتيل وهي تحاول إقناع البرلمان والشعب البريطاني، فضلا عن العالم، بصحة موقفها تجاه واحدة من أكثر المشاكل الإنسانية حاجة للتعامل بشكل إنساني وأخلاقي؟ وما هو الرد على تسويغها بأنها إنما تحاول إنقاذ الناس من الغرق والتهريب وأن طالبي اللجوء «يجعلوننا أقل أمانا كأمة» ويكلفون دافعي الضرائب البريطانيين فاتورة مصاريف كبيرة؟
معظم طالبي اللجوء هم من شعوب، ذاقت الأمرين من الدول الاستعمارية، المُغذية للحروب والصراعات، والعمل بجد على تنصيب حكام محليين، ينفذون سياستها وربط البلدان بعقود وقروض بأكثر الأساليب «الديمقراطية» قمعية
إن ما لم تذكره باتيل هو أن معظم طالبي اللجوء هم من شعوب، ذاقت الأمرين من الدول الاستعمارية، المُغذية للحروب والصراعات، والعمل بجد على تنصيب حكام محليين، ينفذون سياستها وربط البلدان بعقود وقروض بأكثر الأساليب «الديمقراطية» قمعية، وبكافة الطرق من الغزو والاحتلال إلى تغيير الأنظمة. مما يجعل سبب مغادرة البلدان الأصلية ليس بالضرورة اقتصاديا فقط، كما تقول باتيل، بل وسيلة يخاطر فيها اللاجئون بحياتهم هربا من القمع والاضطهاد، السياسي المدعوم غربيا، حفاظا على حياتهم.
في تفنيد ادعاءاتها، لخّص ستيوارت ماكدونالد شادو، المتحدث الرسمي للحزب الوطني الأسكتلندي، موقف عديد النواب واصفا الخطوة، بمفردات غاضبة، بأنها غير عملية وغير قانونية وغير أخلاقية. لن توقف المهربين بل ستلحق ضررًا جسيمًا بالضحايا. وبحساب بسيط سيتضح أن الأموال التي ستدفع لحكومة رواندا هي إهدار طائش لأموال دافعي الضرائب. وتُعد الخطوة انتهاكا لشرعية اتفاقية اللاجئين الموقعة مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالإضافة إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي ساعدت بريطانيا في صياغتها والمصادقة عليها منذ عقود.
من ناحية رواندا، المعروف أنها غير مهيأة للتعامل مع اللاجئين بشكل عادل، كما صرح مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين. إذ لديها ضابط أهلية واحد فقط يقوم بالتحضير للحالات، وهناك نقص في المترجمين الفوريين والمستشارين القانونيين. ومن المفارقات أن هناك حاليا 50 روانديا تقدموا بطلب اللجوء إلى بريطانيا جراء تعرضهم للقمع السياسي، وحقيقة أن السلطات أطلقت النار على 12 لاجئًا في عام 2018 للاحتجاج على قطع وجبات الطعام عنهم. أما طالبو اللجوء الأفغان والسوريين فقد أعادتهم رواندا إلى بلدانهم ليواجهوا الموت. وأثار الأسقف كريستوفر شيسون، الانتباه في مجلس اللوردات، حول حقيقة أنه «لا يوجد شيء في القانون يسمى «طالب لجوء غير قانوني» بل فقط طالب لجوء».
إزاء هذه المعارضة الكبيرة، حتى بين عدد من أعضاء حزبها، حزب المحافظين الحاكم، لماذا تُصر باتيل على الترحيل اللاإنساني لطالبي اللجوء، وتمديد محنتهم، وهي نفسها ابنة عائلة هندية مهاجرة إلى بريطانيا، عمل والدها في محل للبقالة ليوفر العيش لأسرته، والمفترض أن تكون متفهمة لوضع اللاجئين أكثر من غيرها؟
في كتابه «بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء»، يقدم الكاتب والطبيب النفسي فرانز فانون، تحليلا عن نفسية أبناء المُستعمَرات وإحساسهم بعقدة النقص (الدونية)، من ناحية اللون واللغة والثقافة، تجاه الشعوب المُستعمِرة. يحمل التحليل مُقاربة معقولة لفهم سلوك باتيل، وهي من عائلة عاشت في ظل الاستعمار، حيث اختارت الانضمام إلى حزب المحافظين الذي يشكل أتباع الكنيسة الإنكليزية واليهود غالبية أعضائه. وسياسة الحزب مبنية على تعزيز الملكية الخاصة، والحفاظ على القيم والمؤسسات الثقافية التقليدية للمجتمع البريطاني (غالبا الإنكليزي)، واستمرارية تسليح جيش قوي كذراع للهيمنة الاستعمارية والتوسع الإمبريالي. وهي من الناحية الأيديولوجية من الجناح اليميني في حزب المحافظين، وترى في السيدة ثاتشر، رئيسة الوزراء الملقبة « السيدة الحديدية» النموذج الذي تقتديه. ولباتيل علاقة حميمة بكيان الاستيطان الصهيوني. من بينها زيارتها إلى إسرائيل، عام 2017، وإجرائها اجتماعات غير مصرح بها مع مسؤولين حكوميين مما أجبرها على الاستقالة من منصبها كوزيرة للتنمية الدولية.
قد تشكل هذه السيرة تجسيدا لنظرية فانون عن عقلية ووعي ونفسية المثقف المُستعمَر، خاصة حين يترعرع ويتعلم في بلد المُستعمِر، حيث يتوجب عليه مواجهة عنصرية المجتمع والتهميش وأن يثبت، بمختلف الطرق، أنه لكي تكون إنسانا عليك ان تكون أبيض. وهو ما تابعه الصحافي والباحث الهندي أشوين فينكاتاكريشنان، الذي ترعرع مثل باتيل في بريطانيا بعد هجرة عائلته اليها، سيرة باتيل وطموحها في أن تكون كالسيدة ثاتشر في قوتها وقسوتها، ليتوصل للإجابة على السؤال حول مواقف باتيل، بأنه «قد تكمن الإجابة في خلفيتها عندما كانت طفلة تواجه التمييز العنصري، ورغبتها في محاربة ذلك. فسَعّت إلى محاربة الاتهامات بأنها ليست إنجليزية من خلال كونها إنكليزية».