المصالح وليس المباديء من يرسم السياسة الخارجية
علي الكاش
مفكر وكاتب عراقي
قال الرئيس الامريكي باراك اوباما خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده في واشنطن حول الاتفاق النووي الايراني " نعمل مع رئيس الحكومة حيدر العبادي ليستعد العراق سيادته". مؤكدا ان "الحاق الهزيمة بتنظيم داعش تبقى من اولوياتنا". واستبعد أوباما حلا الأزمة السورية إلا بتعاون أطراف دولية تشمل إيران وروسيا والدول الخليجية"، وأضاف" إذ تملك طهران، نفوذا في العراق حيث أغلبية السكان من الشيعة". إيران كانت القاسم المشترك في حديث الرئيس الامريكي، قضية إستعادة سيادة العراق وحل المشكلة السورية، ومحاربة داعش يالتعاون مع نظام الملالي، علاوة على الملف النووي وإستقرار المنطقة والحرب في اليمن وغيرها من المشاكل التي يقف ورائها نظام الملالي الحاكم في طهران.
إن الولايات المتحدة الامريكية والدول الأوربية هي التي سلمت العراق الى إيران، وهي التي سمحت للولي الفقيه أن يمد ذراعه بهدوء وراحة الى لبنان وسوريا واليمن وبقية دول الخليج سواء في عهد أوباما أو سلفه سيء الصيت. ذكر الدكتور أنتوني كوردسمان، الخبير العسكري بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن في تقييمه لتلك الحرب التي ساند إنهاءها حوالي 75% من الأمريكيين "لقد خاضت القوات الأمريكية تلك الحرب في عام 2003 لأسباب خاطئة، وكل ما حققته الغزوة الأمريكية هو تدمير قدرات القوات المسلحة العراقية القادرة على ردع إيران دون أن يكون لدى الولايات المتحدة أي خطة واضحة لاستعادة الأمن والنظام من خلال نظام حكم ديمقراطي". والولايات المتحدة ودول اوربا هي التي شجعت الولي الفقية على التمادي في مد أذرعه في المنطقة وزعزعة أمنها الداخلي من خلال السكوت المريب، وسياسة التغاضي عن نشاكاتها الإرهابية بحجة إنجاح المفاوضات النووية. الولايات المتحدة ودول اوربا هي التي ساعدت الولي الفقيه على نزع العمامة التقليدية ولبس العمامة النووية بالنفس الطويل في التفاوض والتأجيل المتكرر، ومسلل التنازلات لمطالبه المتصاعدة.
الولايات المتحدة الامريكية والدول الأوربية هي التي سمحت لعصا الولي الفقيه بتجاوز المناطق الحمراء، الدول النفطية ومنطقة الخليج العربي كما هو معروف تعتبر مناطق حمراء وفقا لتقسيم دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قسمت الى حمراء، أي محصورة النفوذ لدول واحدة، وبيضاء ، غير ذات أهمية، ومناطق رمادية تجميع بين النوعين الأول الثاني، اي يمكن أن تتحول من بيضاء الى رمادية والعكس. على سبيل المثال اكتشاف اليورانيوم او النفط في منطقة رمادية يحولها الى حمراء، أو نفاذ النقط مثلا من دولة حمراء يحولها الى بيضاء، أو رمادية في حال شكوك وجود آبار محتملة وهكذا. لذا كان من الغرائب أن تسلم الولايات المتحدة العراق لإيران بدلا من أهله الخليجيين الذين ساعدوها في الغزو ماديا ومعنويا ولوجستيا.
ذكر روبرت فيسك في مقال نشر له في الاندبندنت/ لندن في 18 كانون الثاني عام2003 " يعتقد كل عربي بأن البترول وحده يفسر حماسة بوش لغزو العراق وكذلك يعتقد الاسرائيليون وانا أيضا أعتقد ذلك". وهذا ما يتفق مع رأي نائب الرئيس الامريكي ديك تشيني" الرئيس العراقي صدام حسين يتربع على 10% من احتياطات العالم من النفط" وكذلك قول الخبير النفطي (أنتوني سامبسون) " أن شركات النفط تتوق شوقا للوصول الى العراق وتزداد رغبتها كلما زاد قلقها على سلامة امدادات النفط السعودي". كما قال نائب وزير الدفاع الامريكي بول ولفوفيتز في حزيران3200 خلال زيارته لسنغافورة "لم يكن أمامنا أي خيار اقتصادي في العراق، فالبلد يسبح على بحر من البترول". (صحيفة الغارديان 4 حزيران 3200).
سياسة الولايات المتحدة المعلنة تجاه دول الخليج تعتبرها منطقة حمراء خاضعة للنفوذ الأمريكي ولا يجوز للغير تجاوزها، وآخر الموقف الامريكية التي تؤكد السياسة الامريكية هذه كان حربها مع العراق عندما غزى الكويت ورفض الإنسحاب منها إلا بشروط، وصرح حينها عضو مجلس النواب الامريكي ستوكس في 12/1/1991" بصراحة مثيرة" لو كانت الكويت تنتج موزا بدل البترول لم قمنا بإرسال (400000) جندي امريكي لها ". لكن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وبدعم عربي وخليجي يعتبر نقطة تحول في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، فقد تغير الأولويات والأسبقيات الأمريكية من دول الخليج لصالح الفريق الإيراني، وتبين ان الحرب الاعلامية
بين الطرفين الامريكي والإيراني كانت غطاءا سلميا يخفي تنسيق وتعاون بعيد المدى بين (محور الشر) و(قوى الإستكبار العالمي). حتى غزو العراق الذي دعمته دول الخليج العربي، كانت تجهل حينها وجود إتفاق إستراتيجي بين الولايات المتحدة ونظام الملالي بشأن تقاسم الكعكعة العراقية بعيدا عن دول الخليج، إلا أن أعلنها أبطحي ورفسنجاني صراحة فكانت خيبة الخيبات للأنظمة العربية، والمثير أن الولايات المتحدة تصرفت كفتاة خجولة دون أن تعقب على التصريحات الإيرانية أو تنفيها كما تفعل عادة في مثل هذه المواقف المحيرة. ذكر الخبير العسكري الأمريكي توماس دونلي، في ندوة مؤسسة مبادرة السياسة الخارجية للأبحاث" ان سياسة الإدارة الأمريكية طوال الست سنوات الماضية تداخلت، ومكّنت لصعود إيران وانهياراً، مذهلا للنظام العربي السني".
هذه هي سُنة السياسة الخارجية ليس للولايات المتحدة فحسب بل لكل دول العالم، ومن لا يفهمها يصبح كالكرة بين أقدام اللاعبين المحترفين الكبار، مناطق النفوذ تحددها بوصلة المصالح وليس المباديء كما يتوهم البعض، صديق اليوم قد يتحول الى عدو المستقبل، وعدو أمس قد يصبح صديقا اليوم. لا توجد ثوابت في سياسات الدول الخارجية بل متغيرات، وأن وجدت ثوابت فبحدود وقتية تزول بزوال أسبابها. وهناك الآلاف من الشواهد التأريخية والحاضرة سيما في منطقتنا العربية على ذلك.
صحيح أن المؤشرات الأمريكية الخارجية لم تعكس هذا التغيير باديء ذي بدء، ولكن يفترض ان يعي ساسة الخليج ذلك مع أول مؤشر تمثل بتسليم العراق لإيران. وقد توضحت هذه المؤشرات أكثر بعد توقيع الإتفاق النووي مع إيران، وشكل صدمة قوية تلقتها المملكة السعودية قبل غيرها، فحاولت ان تغير مسار سياستها الخارجية بعد إن تحول شهر عسلها مع الأمريكان إلى هجران وربما يعقبه طلاق، سلمت المملكة رسالة واضحة للرئيس أوباما بأنها تفهمت الإهتمام الأمريكي بالحليف الجديد عوضا عنها، بعد أن رفض الملك سلمان بن عبد العزيز دعوته للحضور إلى واشنطن للمشاركة في القمة الأمريكية الخليجية والتي إنتهت بمجاملات دبلوماسية لا أكثر، عكست حالة الإحباط الخليجي وعدم الثقة بالولايات المتحدة. وأعقبها رفض العاهل السعودي طلب أوباما للمساعدة في الجهود الأمريكية لإجراء حوار بين الحكومة المصرية وقوى المعارضة.
لقد وعت المملكة الدرس الأمريكي القاسي متأخرة، ولكنها اسرعت في خطاها لتقلب الطاولة على الرئيس أوباما من خلال الإنفتاح السريع والعلني على روسيا والصين وفرنسا، وتضيف له ولحزبه عبئا جديدا ستتوضح نتائجه في الإنتخابات الأمريكية القادمة، حيث يُحمِل المعارضون الأمريكون أوباما التفريط بالمصالح الأمريكية في الخليج لصالح الحليف الجديد إيران، وأعتبروه فاشلا في سياسته، لأنه بدلا من يقلل من سرعة التسابق النووي في المنطقة سيشعلها نوويا، بسساسته هذه سيدفع السعودية ومصر وبقية دول الخليج للحصول على التقتية النووية أسوة بإيران، وهذا ما أعلمته المملكة بوضوح. وهو ما عبر عنه مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي للرئيس جورج دبليو بوش، خلال استضافته من قبل المجلس الأطلسي( معهد أبحاث بواشنطن) بقوله "إنه من المحتمل وفي أي حال من الاحوال أن يحتاط العرب وقد يحاولون بناء برامج نووية خاصة بهم".
تيقنت السعودية تماما بأن الرئيس اوباما طرح جميع أوراقه على الطاولة بذريعة الإتفاق النووي ولم تبقى بيده ورقة. ذكر (ديني بوشار) من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس لوكالة الصحافة الفرنسية "إنه اعتراف خصوصا من الولايات المتحدة إن لم يكن بشرعية الجمهورية الإسلامية فعلى الأقل بكرامتها، هذا يعني أن إيران ستخرج من عزلتها ولن تخضع للعقوبات ولن تكون بعد اليوم (محور الشر) الذي تحدث عنه الأمريكيون". ومثل كوبا تقريبا لن تعود إيران من الأنظمة التي تمقتها واشنطن". أن أي تقارب امريكي مع إيران سيقابله بالمثل تباعد سعودي عن الولايات المتحدة بنفس المسافة وربما أكثر. ومن المتوقع ان تحذو بقية دول الخليج حذو السعودية في علاقاتها مع الولايات المتحدة، لما تشكله المملكة من مركز ثقل وقوة عسكرية، ولمعرفة دول الخليج حقيقة المطامع الإيرانية في دولهم. لا شك أن تسليم الأمريكان العراق لإيران يعتبر درس موجع وحاضر في أذهان الجميع سيما دول الخليج العربي، بإعتبارهم الأقرب لأنياب الولي الفقيه.
الإتفاق النووي مع إيران لم تعلن كل تفاصيله، وهذا ما جعل الجانب الإيراني يعتبره إنتصارا ساحقا، والطرف المحاور إعتبره إنتصارا ماحقا، والشعوب تقف في حيرة من الأمر! سيما بعد أن ظهرت تصريحات من قبل الطرفين تؤكد صعوبة تنفيذ الإتفاق أو الإلتزام ببعض الفقرات. كشفت صحيفة (وول ستريت جورنال) عن تناقض إدارة أوباما في المحادثات النووية بالقول "في البداية قالت إدارة أوباما إن سياستها كانت لتفكيك البنية التحتية النووية بالكامل لدى طهران كوسيلة لحماية حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط، لكن الآن يقول مسؤولون أمريكيون إنه لم يعد مقبولاً إزالة جميع البنية لتحتية النووية الإيرانية، مما يشير إلى أن أي اتفاق نهائي سيترك بعض القدرات النووية الإيرانية للاستعمال". وصرح وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر" إن إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما تحتفظ بحق استخدام القوة العسكرية ضد إيران في حال الضرورة، وأن اتفاق إيران النووي لا يضع قيودا على استراتيجية الدفاع الأمريكية أو تواجدها العسكري في المنطقة".
الواضح للمراقب السياسي ان الطرفين المحاورين يتلاعبان بالكلام، ويحاولان الظهور بمظهر المنتصر مع ان حكم المباراة لم يعلن النتيجة بعد برفع يد اللاعب المنتصر. نظام الملالي غير قادر ان يبرر لشعبه خسارته في الإتفاق بعد تبجحات المسؤلين برفع راية الثورة الإيرانية فوق البيت الأبيض، وإن الشيطان الأصغر ستغلب على الشيطان الأكبر. ولا أن يبرر لشعبه صرف المليارات من الدولارات على القنبلة الشيعية القادمة التي أجهضت وهي جنين بالإتفاق الأخير، ولا أن يستمر في إدعائه بأن أزمته الإقتصادية سببها تجميد أمواله في الخارج والتي تقدر بحوالي (100) مليار دولار، أو بسبب الحصار الإقتصادي المفروض عليه من قبل الشيطان الأكبر وحلفائه الغربيين، مع ان الحصار لم يمنعه من ضخ المليارات من الدولارات لدعم بشار الأسد وحسن نصر وجودي المالكي والحوثي والخلايا النائمة في دول الخليج وغيرها. ولا يمكن للنظام أن يمحو من الذاكرة الشعبية الشعارات التي رفعها الخميني وخلفه الخامنئي ضد الشيطان الأكبر، ما تزال الشعارات واللافتات ضد الإستكبار الدولي تملأ الشوارع والساحات العامة في المحافظات الإيرانية، وهذا يفسر قول الخامنئي بعد الإتفاق بأن بلادة سوف تستمر في مقارعة قوى الإستكبار العالمي حتى بعد الإتفاق النووي.
من جهة أخرى يصعب على الرئيس أوباما ان يقنع جمهوره او على أقل تقدير الكونغرس وخصومه السياسيين بأن إيران بديل أفضل من دول الخليج العربي، سيما ان دول الخليج لم تعصِ له أمرا قبل الإتفاق النووي الأخير، أو ان المصالح الأمريكية مع النظام الإيراني تتطلب الإنفتاح عليه وتستحق التضحية بمصالحه مع دول الخليج العربي. أو ان إيران يمكن أن تنطوي تحت الجناح الأمريكي وتنفذ طلباته بطاعة عمياء كما فعلت الأنظمة الخليجية، أو ان إيران ستتوقف عن دعم الإرهاب في المنطقة وتحد من تدخلها في شؤون الدول العربية وزعزعة أمنها الداخلي. أو ان المائة مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الأجنبية ستنفقها إيران على شعبها الذي يعاني من الفقر والجوع والبطالة والغلاء الفاحش. لذلك لوح أوباما بعصا التهديد مرة أخرى لإيران، والكثير يعتقد ان التلويح شيء والفعل شيء آخر.
علي الكاش