ماذا وراء تغيير الكنيسة الأنغليكانية خطابها حول «المصالحة» في السياسة الخارجية؟
منذ 5 ساعات
حين ناقش مجلس اللوردات البريطاني يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، موضوع «المصالحة: دور السياسة الخارجية والدفاع البريطانية والتنمية الدولية»، أعطيت المنصة أولا لرجل دين يحتل المركز الأعلى في هرم الكنيسة الأنغليكانية وهو رئيس أساقفة كانتربري. كان هدفه، طرح فكرة مشاركة الكنيسة في مشروع الحكومة الهادف الى تضمين « المصالحة» بين الجهات المتنازعة في سياستها الخارجية.
ركز الأسقف، بعد تعريفه مفهوم المصالحة مستخدما مفردات «التسامح» و«المغفرة»، على أهمية الدور الذي تلعبه الكنيسة في عديد دول العالم، للمساهمة في مساعدة المجتمعات المتناحرة على المصالحة، مشددا على ضرورة التعاون الحكومي البريطاني مع الكنيسة ومنظماتها، في سيرورة تحقيق المصالحة، أذا ما تم تبني سياسة تجمع ما بين وزارتي الخارجية والدفاع وهيئة التنمية الدولية، بديلا للسياسة الحالية المستندة على تحقيق «الاستقرار، الأمان، والأمن».
في محاججته لإعطاء الكنيسة دورا رسميا في الهيئة المستحدثة، حول السياسة الخارجية والدفاع والتنمية، نوه رئيس الأساقفة أن 85 بالمئة من سكان العالم ينتمون الى أحد الأديان او يؤمنون بمعتقد ديني. وفي نقلة من الديني الى التجاري، أكد الأسقف على إن إحلال السلام، في العالم، هو « في مصلحة بريطانيا. فهو يوفر الفرص التجارية، ويُسهل التنمية، ويقلل من الهجرة وأعداد اللاجئين». وهي وجهة نظر أيدها بقية اللوردات الذين شاركوا في الجلسة، مؤكدين أهمية دور بريطانيا في تحقيق «المصالحة» بين أفراد المجتمعات المتنازعة، لما تجلبه المصالحة من استقرار يصب بالنهاية في مصلحة بريطانيا. وأن فشل المحاولات السابقة التي قادتها بريطانيا، وكلفتها ميزانية كبيرة، سببها حدة نزاعات واقتتال اهل البلدان أنفسهم، مما يستدعى، حاليا، تدخل بريطانيا لتحقيق المصالحة بينهم أولا. وهو ذات المنطق الاستعماري الاستعلائي القديم، الذي طالما استخدمته الامبراطورية لتبرير غزو البلدان والاستيلاء على ثرواتها، ولكن بلغة جديدة، تضم مفردات المصالحة والعدالة الانتقالية ومنظمات المجتمع المدني، لتمكنها من تشويه الحقيقة.
لم يشر رئيس الأساقفة وبقية اللوردات، الى ان استثمار بريطانيا في النزاعات والحروب، كما يدل الوضع الحالي، في الشرق الأوسط وأفريقيا، هو الأكثر ربحا لبريطانيا، خاصة، في مجالي تجارة السلاح وعقود النفط. وغالبا ما تلجأ الحكومة الى تغطية دورها في النزاعات والحروب، كما حدث بالعراق، مثلا، عن طريق ابراز « المساعدات الخارجية الإنسانية» إعلاميا. ولا تختلف بريطانيا كثيرا عن الولايات المتحدة في هذا المجال، حيث يذكر الموقع الإلكتروني للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) بصراحة: «كان المستفيد الرئيسي من برامج المساعدات الخارجية الأمريكية دائمًا هو الولايات المتحدة. ساعدت برامج المساعدات الخارجية في إنشاء أسواق رئيسية للسلع الزراعية، وخلقت أسواقًا جديدة للصادرات الصناعية الأمريكية، ووفرت مئات الآلاف من فرص العمل للأمريكيين» ولم تذكر التغطية على مبيعات السلاح المتعاظمة دوما.
- اقتباس :
لم يشر رئيس الأساقفة وبقية اللوردات، الى أن استثمار بريطانيا في النزاعات والحروب، كما يدل الوضع الحالي، في الشرق الأوسط وأفريقيا، هو الأكثر ربحا لبريطانيا، خاصة، في مجالي تجارة السلاح وعقود النفط
وهو ذات الدور الاستعماري التاريخي الذي اشتهرت به بريطانيا والغرب، عموما، بمساعدة الكنيسة، ولا يزال مستمرا مع بعض التغيير الطفيف، وهو ما يُذكرنا به رجل الدين الجنوب أفريقي المطران دزموند توتو بقوله»: «عندما جاء المبشرون إلى أرضنا بالكتاب المقدس، أغمضنا عيوننا وصلّينا. عندما فتحنا عيوننا، كان لدينا الكتاب المقدس ولديهم أرضنا».
فهل تقترح الكنيسة، هنا، القيام، حقا بدور في اجراء مصالحة حقيقية بين أبناء الشعب الواحد المتنازع فيما بينه، أم انها تحاول استعادة دورها التقليدي والحصول على حصة من «الاستثمار»، بالشراكة مع الدولة، باعتبار منظماتها جزءا من القوة الناعمة، وهو المصطلح الذي أشار اليه عدد من اللوردات في سياق اعتبروه ايجابيا؟
اقترح رئيس الأساقفة في كلمته إقامة «وحدة مصالحة مشتركة تضم مجموعات عامة وخاصة ومنظمات دينية بشكل شراكة». مذكرا بنجاح الكنيسة في تحقيق المصالحة، خلال أيام، في مناطق نزاع مستمر بينما فشلت محاولات السياسيين على مدى أربع سنوات، مستشهدا بدور رؤساء الأساقفة في جنوب السودان، وان لم يذكر السياسة التي اتبعتها الكنيسة وبعثاتها التبشيرية ومنظماتها في تشجيع الانقسام الديني وحتى الطائفي، أحيانا، بين أبناء الدين المسيحي الواحد، ناهيك عن المساهمة بشكل أو آخر في تقسيم البلدان.
كما ذَكر مجلس اللوردات، بأهمية المنظمات المسيحية الأنغليكانية الفاعلة في 165 دولة بالشراكة مع 85 مليون شخص. منبها الى ضرورة دعمها ماديا فمعدل ما تحصل عليه «الأنغليكانية»، الثلاثينية «المتطوعة»، للعمل «الإنساني» في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أقل من 4 دولارات في اليوم. مؤكدا بما لا يقبل الشك « ان المنظمات الدينية المسيحية موجودة قبل النزاع وأثناءه وبعده».
نوقشت كلمة رئيس الأساقفة بالتفصيل. حيث أتفق اللوردات، جميعا، على أهمية اضافة «المصالحة» الى السياسة الخارجية البريطانية وتحديد ميزانية لها، بالإضافة الى ميزانية «صندوق الصراع والاستقرار والأمن»، المعمول به، حاليا، والذي طالب المتحدث باسم حزب العمال تحويله الى «صندوق سلام»، والكشف عن تفاصيل الجهات التي تتلقاه وعلاقتها بحقوق الإنسان. وهي نقطة تستحق التوقف عندها لمراجعة سياسة بريطانيا الخارجية، المتميزة بازدواجية المعايير، تجاه بلداننا، بشكل خاص، تحت برقع «الديمقراطية»، ومساندة الأنظمة الاستبدادية في آن واحد.
وبلغت المناقشة قمة المفارقة حين تحدث إيرل هاو، وزير الدولة، وزارة الدفاع، ونائب رئيس مجلس اللوردات، مؤكدا أهمية تعزيز آليات العدالة الانتقالية، التي يمكن أن تشمل لجان الحقيقة، والعمليات القضائية، وآليات التعويض للضحايا، واعتبارها أمر أساسيا في عمل الحكومة البريطانية. واستطرد متحدثا عن تقديم «الدعم المباشر لمشاريع المصالحة المحلية على الأرض». مثالها: تمويل عملية مصالحة، في سهول نينوى وكركوك في العراق، والتي تشمل أحداث المجتمع المدني! ولم يغفل مسؤول الحكومة البريطانية عن ذكر صعوبات عملهم، لأن « الصراعات تصبح أكثر تعقيدًا يومًا بعد يوم: تصبح أكثر تدويلًا، وتصبح مجموعاتها المسلحة غير الحكومية أكثر تجزؤًا، وتصبح اقتصادات الحرب التي تنشئها أكثر قوة. « وهو، باختصار شديد، شكل آخر من أشكال التدخل الخارجي المهدد للسيادة الوطنية.
ما الذي يعنيه نقاش إضافة «المصالحة « الى السياسة الخارجية البريطانية بالنسبة الينا؟ انه يعني شيئا واحدا: قناع جديد لوجه قديم. استخدام مفاهيم نبيلة كالمصالحة والعدالة الانتقالية وتعويض الضحايا كأذرع للتدخل والاستغلال والقاء اللوم على اهل البلدان الأصليين لتغطية جرائم الغزو والاحتلال والتدخل في الشؤون الداخلية. ولمن يعاني من ضعف الذاكرة نذكر ان تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني تم بوعد بلفور البريطاني، وان بريطانيا كانت شريكة أمريكا في غزو وتخريب العراق. واذا ما كانت جادة في تضمين المصالحة في سياستها الخارجية وبروح التسامح المسيحي الذي يدعو اليه رئيس الأساقفة،، مع الإقرار بحسن نية عديد القساوسة في الغرب، فالأجدر بها ان تبدأ بالاعتراف بجرائمها وتعويض ضحاياها.
كاتبة من العراق