بين حانة ومانة ضٌيعنا الحقيقة بالعراق
هيفاء زنكنة
July 27, 2015
نكاد نغرق بالاخبار والمعلومات التي تهطل علينا، بالدقائق، عبر اجهزة الاعلام وما يوازيها من مواقع التواصل الاجتماعي. صناديق الرسائل الالكترونية تحتج لكثرة الوارد اليها وتجاوز سعة التلقي المسموح بها، فنضطر الى المسح والالغاء، فيختلط الغث بالسمين ونخسر، احيانا، مصادر خبرية ومعلوماتية مهمة. اضافة الى كثرة وتوفر المعلومات بنوعيها المفيد والضار المزيف، نجد انفسنا بحاجة للتأني والتردد، اذا كنا نريد متابعة حدثا معينا، ازاء تعدد المصادر وضبابيتها وتهويماتها، الساذجة منها، احيانا، والمؤدلجة في احيان اخرى، وكلاهما يتطلب التمحيص والتدقيق.
نحن نعيش بسبب فوضى المعلومات وسيطرة بعض مصادرها بمواردها على الفضاء الاكبر في كابوس مشابه بشكل ما لما صوره الكاتب الانكليزي جورج اورويل في روايته الشهيرة 1984، من اختلاق السلطة لحالات حروب دائمة يتغير فيها الصديق الى عدو وبالعكس بين ليلة وضحاها، وحالات استنفار ضد الاعداء الداخليين الذين قد يكونون جيراننا وابنائنا، وحيث يكون الضحية جلادا او بالعكس. الفرق بين حالة الاعلام الشمولي في رواية اورويل وحالة تعدد مصادر الاعلام وتنافس السيطرة عليها، حاليا، هو مدى قدرتنا كمواطنين على التمحيص والمقارنة.
قراءة الخبر باتت مهمة ثقيلة، وما يصلنا بحاجة الى غربلة وغربلة. فالمصادر ملتبسة والرسائل مختلطة، فصناعة الخبر والترويج له تضخيما ليس صعبا. انه يشبه معامل صناعة البضائع المزيفة، بارخص الاسعار، في معامل الانتاج الصينية. هناك قوالب جاهزة لكل البضائع الملائمة لاي بلد تختاره. فما كان يتطلب التخطيط والتنفيذ وفق استراتيجية اعلامية معينة، صار اليوم جاهز الصنع في مكاتب الصحافيين او اي شخص لديه جهاز كمبيوتر. واذا كان لدمقرطة تدوين وتبادل الاخبار منافعها الجمة فان، لها، في الوقت نفسه مساوئها. ولعل اكثرها وضوحا هو محاولة اجهزة الاعلام منافسة مواقع التواصل الاجتماعي، في سرعة نقلها للمعلومة، مما ادى الى تدهور نوعية العمل ومصداقيته بدلا من ارتفاع المستوى. صار السباق محموما في نقل الاخبار بدون تمحيص، والى ان يتم تصحيح المعلومة الكاذبة الواردة بالخبر، يكون الخبر الكاذب قد رسخ في ذاكرة الناس وبات حقيقة مقبولة من الصعب مسحها حتى ان نٌشر تصحيح للخبر. تشير الاحصائيات الاعلامية الى ان نسبة ضئيلة جدا من القراء فقط يقرأون تصويب الاخبار او المعلومات غير الصحيحة، فيبقى التأثير النفسي لما ينشر اولا هو السائد حتى بعد تكذيبه. وقد وثق هذه الظاهرة كبار علماء علم النفس الاجتماعي بينهم دانييل كانيمان صاحب كتاب «التفكير: سريعه وبطيئه»، والذي بدا ابحاثه الاكاديمية في الجيش الاسرائيلي، ثم انتقل الى مجالات اخرى في امريكا وحازعلى جائزة نوبل على تحليله لهذه الظواهر في حقل التسويق وربطه الدعاية السياسية بالاشاعة وصناعة الاعلانات.
من بين العديد من الامثلة الاقل اهمية، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، اخيرا، شريط فيديو، لحفل زواج ابنة مسؤول حكومي عراقي. تبدو فيه الابنة وهي تتقبل الهدايا من صف طويل من الضيوف. الهدايا عبارة عن قلادات واساور ذهبية. بعد انتهاء الفيديو، ومدته بضع دقائق، تصبح العروس مطوقة العنق واليدين بكيلوات من الذهب. انتشر الفيديو، بسرعة مذهلة، خاصة، وان اسم والد العروس كان قد ذكر، سابقا، مع سرقة مصرف ببغداد، وفي وقت وصل فيه عدد النازحين الثلاثة ملايين عراقي. تبين بعد ايام، عند تدقيق الخبر، انه ليس للمسؤول الكبير بنت بعمر العروس، وان الفيديو مفبرك. الا ان هذه المعلومة لم تضع حدا لتوزيع الفيديو الذي اصبح هو الحقيقة على حساب طمس الحقيقة. التزوير هنا بسيط جدا، اذ يقتصر على وضع عنوان كاذب فوق قصة حقيقية. وقد عرفنا هذه الظاهرة منذ سنين، وخصوصا منذ 2011 في عشرات اشرطة الفيديو، انتجتها اطراف القتال بعد قمع الانتفاضة السورية عن فظاعات النظام او الثوار، لم يكن لتكذيبها او تحليل التلاعبات فيها اي تأثير. ويسري الامر على ما يحدث في العراق واليمن ومصر وليبيا وبقية البلدان التي ابتلت بانظمة الفساد وتشويهات فعل الثورة الشعبية من قبل اطراف شتى. ولا يتبقى للمشاهد الا تصنيف مصادر الاعلام الى «ذات مصداقية « و»ضعيفة المصداقية « و»عديمة المصداقية».
اما بالنسبة الى اجهزة الاعلام العراقي، فاننا قلما نجد خبرا موثقا من مصادر صحافية ذات مصداقية. اذ ان معظم المصادر التي يتم نقل الاخبار عنها رسمية غايتها دعائية واضحة وغير معنية بالحقيقة، لأن الحقيقة، كعامل تنويري، تشكل خطرا على وجودها . هناك، ايضا، مفارقة نقل الاخبار المحلية من وكالات انباء اجنبية. فيتشكل وعي المواطن بما يدور حوله عبر عدسات ذات مرشحات لونية لا علاقة لها بالواقع. تستوقفنا المصادر الرسمية، لأنها، على الرغم من ضبابيتها الفاضحة ومصلحتها في التزوير الدعائي، مصدر كل الاخبار العسكرية والامنية. وتستند اجهزة الاعلام الى المصدر الرسمي اما بصفته كناطق رسمي او من خلال توزيع البيانات الصحافية. وقد تم، في الاونة الاخيرة، بروز ظاهرة نقل الاخبار العسكرية والامنية، خاصة، اما من قبل «جناح اعلامي» في احدى مليشيات الحشد الشعبي او من مصدر رسمي «رفيع المستوى».
واذا كانت الانظمة والحكومات العربية والغربية قد عثرت على فردوسها المفقود مجسدا بتنظيم الدولة الاسلامية ليكون العدو الذي يخيف الشعوب ويجعلها رهينة بايدى الحكومات، فان اجهزة الاعلام بتهافتها على جذب اكبر عدد من الجمهور وملء ساعات البث الطويلة ليلا ونهارا تساهم، بشكل او آخر، في تكريس صناعة الخوف والتزييف . ففي خبر نقلته وكالة «المدى برس»، العراقية، مثلا، بعنوان «خلية الصقور تعلن قتل المجهز الرئيس للانتحاريين في بغداد»، تستند الوكالة في نقلها الخبر الى «مصدر امني رفيع المستوى»، طلب عدم الكشف عن اسمه، ليكشف عن «تفاصيل عملية قتل المجهز والناقل الرئيس للانتحاريين في العاصمة بغداد» من قبل «قوة من الشرطة وخلية الصقور الاستخبارية». ويترك خبر الوكالة التي تقدم نفسها بانها ذات مهنية عالية وانها افضل من غيرها، في الساحة الاعلامية العراقية، القارىء في حيرة من امره. فبالاضافة الى المصدر الامني المجهول صاحب المصلحة الواضحة في تحسين صورة واداء الجهاز الامني، هناك «الارهابي» مجهول الهوية الذي يتم القاء القبض عليه بالاضافة الى «خلية الصقور» التي لايعرف القاريء عنها شيئا، باستثناء كونها «استخبارية»، وقد تكون اسما تجاريا لمعجون طماطة (بندورة) معلبة. هذا هو نوع الاعلام الذي يخاطب الجمهور ويدٌعي تشكيل وعيه . وهو الاعلام الذي عالجه المخرج التونسي غازي الزغباني في مسرحيته «بلاتو»، قائلا بلسان مسؤول احدى القنوات التلفزيونية عن علاقة الاعلام بالرأي العام: «الحقيقة لم تكتب يوما كما نريد، هناك ضغوطات تجبرنا على كتابة حقيقة ما، الشعب ايضا يبحث عن حقيقة نحن نصنعها له نحن نقدمها له، الشعب نخيفه لنطمئنه، تعليمات تحكمنا تعليمات واضحة تحكمنا واخرى مخفية نحن نصنعها، تعليمات، هي وراء كل حقيقة». وهل هناك ما هو اكثر اثارة، وتخويفا، وطمأنة في آن واحد، من القاء القبض على او قتل «ارهابيين» او عرضهم على شاشات التلفزيون للادلاء باعترافات تجذب المشاهدين اكثر من مسلسل «حريم السلطان»؟
ان معظم اجهزة الاعلام العراقية متواطئة مع النظام في تزييف الحقيقة، على كافة المستويات، ليبقى الشك بصحة الاخبار وغربلتها هو السلاح الافضل المتبقي لنا لفرز الحقيقة من ركام التزييف المؤدلج الذي لا يقل عن الارهاب ارهابا.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة