البعـــث والــديكتــاتــوريـــة ( ح٩ ) ? صلاح المختار
البعـــث والــديكتــاتــوريـــة ( ح٩ ) ?
شبكة ذي قـارصلاح المختار
ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني
علي بن أبي طالب ( ر )
ان من ابرز الحقائق الميدانية التي لايجوز اغفالها هي ان الصراع في الوطن العربي لم يكن من اجل الديمقراطية هو المطلب الاساس للجماهير كما قد يتوهم البعض بل كان صراعا من اجل العدالة الاجتماعية غالبا وانهاء الفقر والثروات التخلف والامية الممزوج بالنزعة للحرية والتحرر بمواجهة الغزو الاستعماري المباشر او غير المباشر ، ولذلك كانت الديمقراطية هدفا جديدا وغامضا وشعارا حديثا للكسب اكثر مما كانت مفهوما متبلورا ومتغلغلا في النفوس ، وكنتيجة لهذا الواقع كان المناضلون العرب يحملون في احشاءهم تربية وتقاليد وتأثيرات قرون واحيانا الفيات من الاستبداد رغم دعوتهم للحرية ونضالهم من اجلها . فما الذي ينتج عن تلك الواقعة ؟
ان ابرز ما يترتب على تلك الحقيقة الاجتماعية والتاريخية هو تبلور درس كبير وهو ان الديمقراطية ليست بدلة حديثة نلبسها وننزع ملابسنا القديمة فتظهر ميزتها فورا بل هي تربية عامة ( ثقافية ونفسية ... الخ ) متدرجة وطويلة نسبيا وظيفتها تغيير ما تربى عليه الانسان من تقاليد مناقضة للديمقراطية وقيم الحرية الحديثة وانهاء او ضبط الممارسات ذات الطبيعة الانانية ، وبالتبعية فاننا امام حقيقة عملية وهي ان الوصول الى ذلك ليس هدفا ل ( خطة خمسية ) كما في الاقتصاد والبناء المادي للدولة وانما الامر يحتاج لعقدين او اكثر . وهذه الحقيقة نراها في سلوك الكثير من الناس الذين غيروا لباسهم وسكنهم واكلهم وطرق حياتهم لكنهم عجزوا عن تحقيق تغيير نوعي في انماط تفكيرهم وسلوكهم .
والديمقراطية لن تنشأ بعفوية مثلما حصل في الغرب لان العالم تغير وتداخل واصبح اصغر بعد الثورة الصناعية ، ثم تصغّر اكثر – بعملية مبرمجة - وصار ( قرية الكترونية ) بعد ثورة المعلوماتية في التسعينيات ، وانتقل العالم واصبح ( غرفة الكترونية ) في العقد الثاني من الالفية الجديدة ، ونتيجة لهذا التطور النوعي في العالم زالت ظاهرة التطور الداخلي الصرف او شبه الصرف للمجتمعات وهو ما حصل في اوربا وبرز عامل جديد خطير جدا وهو ان التأثير الخارجي للغرب تحديدا اقوى من تأثير العائلة والمدرسة والمجتمع المحلي في العالم كله بما في ذلك الوطن العربي ، لهذا تشوه التكوين الانساني الاخلاقي والنفسي واصبح نضوج الديمقراطية محاطا بالغاز والغام متعددة زرعت عمدا .
ولكي نضمن بناء ديمقراطية حقيقية وواقعية لابد من توفير شروط محددة اهمها ما يلي :
1- ازلة الامية ونشر التعليم العام ويبقى الهدف المركزي من ذلك هو التمكين التدريجي للمواطن من معرفة حقوقه وممارستها ومنها حقه في تقرير من يحكمه وقبول او رفض البرامج الانتخابية ...الخ . ولكي نرى اهمية التعليم وازالة الامية فاننا في العراق شاهدنا نتائج الامية والجهل في ممارسة ديمقراطية ليبرالية فرضها الاحتلال فكانت كارثة اضافية لانها اطلقت النزعات الحيوانية السابقة للانسان وصارت قلعة للفساد والمفسدين وغطاء للغزو الخارجي ووسيلة لاحلال مفاهيم مناقضة للوطنية .
2- تحرير الانسان من الفقر : ان تجربة الرأسمالية في الغرب قد اثبت انه لا قيمة حقيقية للديمقراطية في تحرير الانسان ما لم تقترن بنظام اجتماعي اقتصادي عادل فعليا وقانونيا يضمن اشباع حاجات الناس المادية والمعنوية في نفس الوقت وبتحرير الانسان من الفقر نضمن له عدم الوقوع تحت تأثيرات من يملك المال . وعندما يتحرر الانسان من الفقر والامية والاستغلال الطبقي يصبح عارفا ومثقفا ويفهم ما يجري بصواب وينتخب من يريد بحرية . لذلك فمهمة اعادة بناء الانسان تسبق الديمقراطية والحريات كافة لاجل ان يمارس الانسان الديمقراطية وحرياته وهو واع ويعرف كل ما يتعلق بحياته العامة والخاصة .
3- نظام قوي وبما ان هذا الهدف معقد خصوصا في قطر فقير او محدود الموارد فيه تتداخل نظم مختلفة ( بقايا عبودية واقطاع وراسمالية هجينة ) فان الضرورة تفرض اجراءات قد تبدو قاسية لتوفير الموارد من جهة ولضمان استمرارية السلوك المناسب للديمقراطية من خلال ادامته بواسطة قوانين ملزمة من جهة ثانية . وتلك مهمة لا تنجزها سوى حكومة قوية في نظام مستقر لان تواصل تنفيذ خطط محو الامية وازالة الفقر يجب ان لاتتعرضا للانتكاس بالتوقف العشوائي واستبدال التخطيط بالاجتهادات المتناقضة وعدم ثبات السياسة العامة على نهج معين وهو حال الاقطار العربية التي واجهت حالات عدم استقرار متعمدة .
4- تحويل التراكم الكمي الى تغيير نوعي في المجتمع : ان تراكم الخبرات وبناء ثقافة احترام المؤسسات الدستورية والقانونية وتجاوز علاقات ما قبل الامة والوطنية تستوجب ديمومة العمل ولعدة مراحل واجيال في تنفيذ برامج التغيير الاجتماعي والنفسي والثقافي فلا ديمقراطية بدون تغيير نوعي في الحياة والممارسة وانماط التفكير .
5- دولة مهابة : بعكس حالة الغرب الاوربي والامريكي الشمالي فان حالتنا تحتاج لدولة قوية وليس لمجرد شرطي يحمينا من اللصوص الداخليين فنحن في عالم جديد التدخل الخارجي المباشر وغير المباشر هو التهديد الاخطر فيه لاي امة ولهذا فان هيبة الدولة احدى اهم ضرورات حماية الاستقلال الوطني وهوية الامة ، وبدون اعداد جيش قوي يستطيع مقاومة التهديدات الخارجية ويمنع الاعتماد على الحماية الخارجية لن تكون هناك ديمقراطية حقيقية لان بناء الديمقراطية في دولة ضعيفة يجعلها مجرد غطاء للنفوذ الاجنبي .
كما ان الدولة القوية ضرورة لابد منها لازالة التقاليد الاقطاعية وتأثيرات الانتماءات السابقة للامة كالعشائرية والمناطقية والطائفية ...الخ ، بتأسيس جيش قوي يتفوق على قوة القبيلة وبوجود هيئات سياسية تنزع الانسان من بيئته الضيقة وتضعه في بيئة اعلى وارقى من بيئة ما قبل الامة والوطنية وبهيبة دولة قوية يمكن تأسيس نظام يرسخ الديمقراطية وهو نظام التقاليد الاجتماعية والعامة .
6- الدمج بين الشورى والديمقراطية في نظام انتقالي متفق عليه من قبل القوى الوطنية الاساسية ، فلا ديمقراطية حقيقية في اقطار تنمو مؤسساتها العامة ولم تكتمل بعد الا بالدمج بين بعض الممارسات الديمقراطية الحديثة ونظام الشورى . ان التوقف عند الشورى وهي نظام ناقص في عصرنا لانه ثمرة مجتمعات ما قبل الامة ليس سوى عودة تلقائية للاستبداد وهو ما شاهدناه في فترات الحكم بعد الخلفاء الراشدين ، لذلك فان الشورى هي مرحلة انتقالية بين عهدين عهد الاستبداد وعهد الديمقراطية تتم فيها اعداد المجتمع تربويا لفهم وتقبل واستيعاب الديمقراطية وممارستها بصورة صحيحة .
هكذا فهم البعث معنى الديمقراطية وكيفية اقامتها وتوفير مستلزماتها وكل خطط البعث التي نفذها كانت مبنية على اساس هذا الفهم من اجل الوصول الى نظام ديمقراطي مناسبة لبيئتنا وتطرد الفكرة المضللة عن ديمقراطية واحدة ذات طابع عالمي ، لان الاخيرة وبسبب نشؤوها في بيئة مختلفة جذريا عن بيئتنا التاريخية والاجتماعية والحضارية والثقافية وفي درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي تصبح وصفة تدمير ونشر فوضى وليس وصفة انقاذ وتمكيم الانسان من ممارسة حقوقه الاساسية . كل الشروط السابقة قام البعث بتوفيرها لقيام نظام ديمقراطي حقيقي وجاد ولكن هل وفق البعث في الوصول الى هذا الهدف ام فشل ؟ وما هي الاسباب ؟
1- الديمقراطية ليست تنفيذ قرار بتبنيها بل هي اولا واخيرا تربية ووعي عميق كما وضحنا ولهذا كان العراق في مواجهة ازمة الغياب الموضوعي لاسس الديمقراطية من جهة وتصاعد تحديات الخارج والداخل من جهة ثانية ، وبما ان البعث تأسس على اسس ديمقراطية معروفة ومارسها قبل استلام الحكم داخل المؤسسة الحزبية بنجاح كبير فانه واجه معضلة كبيرة وهي انه غير قادر على ممارسة الديمقراطية كاملة كما اقرها في عقيدته .
2- ان اعضاء وانصار الحزب ليسوا من طينة مختلفة عن طينة كل عراقي وعربي بل هم جزء منها لذلك فالبعثي ، مثل الشيوعي والاسلاموي والليبرالي ، يتأثر بما يتأثر به كل عربي اخر ولكن الفرق هو ان الطليعي يفترض به ان يكون واعيا ومتقدما في فهمه ومعالجته للامور الخطيرة وهنا تكمن اشكالية التناقض بين المبادئ وبين الممارسات وهي اشكالية كافة الاحزاب والكتل في المجتمعات العالم ثالثية ، لذلك واجه البعث اشكالية التناقض بين مفاهيمه ومبادئه الديمقراطية وبين اضطراره لممارسة سلوك دفاعي فرضته بيئة الصراعات بين الاحزاب ومع دول خارجية . عندما وجد البعث انه هدفا للتأمر بكافة اشكاله خصوصا الانقلابات ضده او اعمال الارهاب الدموي فانه لجأ لاول رد فعل للانسان في كل زمان ومكان وهو الدفاع عن النفس ، وهكذا وتحت خيمة هذا الحق الاول ظهرت اشكال لتجاوز الحدود غير الواضحة بين ماهو مشروع ويدخل في اطار الدفاع عن النفس وماهو رد فعل مبالغ فيه ضد اطراف اخرى .
3- من هنا فان البعث يتحمل جزء من مسؤولية ما وقع لكنه ليس الوحيد فكل الاطراف التي شاركت في الصراع تتحمل المسؤولية وليس من الموضوعية ولا الانصاف تحميل البعث وحده مسؤولية الصراعات مادامت هناك اطراف اخرى شاركت فيها وسبقت البعث في ممارسة العنف والاقصاء ضده .
4- انفراد البعث الحكم به ليس مسؤولية البعث بل مسؤولية الاطراف الاخرى لان البعث دعا الجميع للمشاركة وطلب بدأ صفحة جديدة عندما استلم الحكم مرة ثانية في عام 1968 واصر على الحوار لاقناع الاطراف الاخرى وبعد جهد كبير قامت الجبهة الوطنية التقدمية واقيم الحكم الاذاتي في شمال العراق فحلت اكبر مشكلتين واجهتا العراق وهما الصراع بين القوى الوطنية والقضية الكردية . الاخرون افشلوا الحل الديمقراطي في العراق فالحزب الشيوعي خرق اتفاقية الجبهة والمشاركة في الحكم فانهارت الجبهة بينما تمسكت اطراف كردية بالسعي لعدم تطبيق اتفاقية اذار فطبقها البعث من جهته منفردا وتعاون مع اطراف كردية معينة لاجل ذلك.
5- حق الدفاع النفس هو الحق الطبيعي الاول للفرد والدولة فهل بادر البعث بالاعتداء على الاخرين في الداخل والخارج ام ان الاخرين هم من بادروا واعتدوا عليه ؟ كل الوقائع المادية تؤكد ان البعث بادر بابداء حسن النية لكن الاطراف الاخرى ردت عليه بمنطق عدائي تامري ، ونحن مستعدون لمناقشة هذه الحقيقة مع من يعترض عليها .
6- هل يستثنى العراق من ظاهرة اتخاذ القرارات الحاسمة بسرعة ومن جهة مركزية مع ان العالم كله المتقدم والنامي والمتخلف يقوم بذلك كألية دفاع عن النفس ؟ الغرب وهو الاكثر تقدما في مجال الديمقراطية ودولة المؤسسات لكنه الاكثر مركزية في اتخاذ القرارات ، فكل حروب العالم الحديثة كانت بقرار مركزي امريكي او اوربي لم تكن الجماهير تريده وفرض عليها بوسائل الخداع . وهذا هو ما حصل في اوربا التي دمرتها الحرب وهذا ما حصل في فيتنام والعراق . فهل يمكن لقطر مثل العراق يتعرض منذ تاميم النفط في عام 1972 الى مسلسلات متتابعة من التامر الخارجي والداخلي ان لا يتخذ قرارات تاريخية مركزيا ؟
7- هل تعلم البعث من تجاربه وانتقل لمرحلة اعلى من السلوك الديمقراطي ؟
يتبــــــــــــــــــــــع ...Almukhtar44@gmail.com
٢ / أب / ٢٠١٥