الهرم الديني والتبريكات المقدسة د. مثنى عبدالله August 24, 2015 السلطات المعنوية في المجتمعات الم
الهرم الديني والتبريكات المقدسة
د. مثنى عبدالله
August 24, 2015
السلطات المعنوية في المجتمعات المدنية لا تتدخل في الحياة السياسية، لكن تتدخل في القضايا والمعارك الوطنية الكبرى. وضع ستالين الكنيسة الارثوذوكسية في المحجر وحرّم عليها الظهور في المجتمع، لكن عندما أتت المعركة الوطنية الكبرى مع النازية، كانت الكنيسة الارثوذوكسية رأس الحربة في التعبئة والتحريض ضد النازية.
في العراق دخلت سلطاتنا المعنوية الحياة السياسية من أوسع أبوابها بعد عام 2003، ومن أفتى بالجهاد، ومن كان يصرخ بضرورة مقاومة الاحتلال، وهو يحمل رشاشه الكلاشنكوف على المنبر في خطبة الجمعة، كما شاهده أهالي بغداد على شاشة التلفاز، كي يزيد من حماس الناس، تبخروا جميعا من جبهة المقاومة، ثم ظهروا لاحقا وهم يضعون العمامة جانبا، بينما تمتد ولائم الطعام في بيوتهم لقادة الجيش الأمريكي. لم ينشأ هذا الحال من فراغ ولم يكن مجرد تبديل ولاءات، بل هو عملية مدروسة لجمع الولاءات قام بها الامريكان. فالمشروع الجديد الذي أتوا به هو حاكمية الطوائف، ولا طوائف من دون رؤوس بسلطات معنوية، وكي يسير المشروع الطائفي رويدا رويدا كان لا بد من تبريكات مقدسة من قبل تلك السلطات المعنوية للزعامات السياسية الجديدة، لأنها وحدها التي تعطي للزعامة السياسية السمع والطاعة من قبل العامة، وبالسمع والطاعة يُثبّت المحتلون مشروعهم الجديد على الارض.
وقد ظهرت هذه الممارسة بصورة جلية عندما أسبغ بعض مشايخ الدين مكرماتهم المقدسة على الحزب الاسلامي العراقي، وجعلوه الممثل الشرعي والوحيد للسنة، كما أسُبغت التبريكات المقدسة من قبل بعض المراجع الذين يتخذون إيران مقرا لهم، فجعلوا الاحزاب الدينية الشيعية الممثل الشرعي والوحيد للشيعة في العراق، وعندما حدثت الانتخابات الأولى بعد الاحتلال كان واضحا متاجرة هذه الاحزاب بالمؤسسات والرموز الدينية. السؤال الأهم هنا هو، هل كانت الرموز الدينية هي فعلا من أسبغ التبريكات على الساسة الجدد؟ مهما يكن نوع الاجابة نفيا أو تأكيدا، فإن المشايخ والمراجع يتحملون مسؤولية ما حدث. فإذا كانوا حقا قد انخرطوا في السياسة وباركوا فهم يتحملون مسؤولية ذلك، وإن كانت تبريكاتهم مجرد استغلال سياسي لاسمائهم وعناوينهم فلن يبرئهم هذا الموقف إطلاقا، لأن هؤلاء الساسة قد أساءوا لهم، وبما أنهم رموز عامة كان يفترض فيهم أن يظهروا للعلن لايضاح الامر لمقلديهم وتابعيهم. أما اليوم وبعد أن قامت المظاهرات العراقية بفضح فساد جميع الساسة، ومن ضمنهم من يرتدون العمامة، لابد أن يكون موقف الرموز المعنوية أكثرا وضوحا وأشد جرأة مما سمعنا لحد الان، بل أن يكونوا هم من يقررون للمتظاهرين الخطوة المقبلة، لأن هذا يتفق مع واجباتهم ودورهم الرائد في القضايا الوطنية الكبرى، كما أنه سيكون ردا على كل المتقولين بان المظاهرات الاخيرة هي تهديد للدين، فالبعض من زعامات الاحزاب الدينية لازالوا حتى اللحظة يفسرون وجودهم في السلطة بأنه حق ديني لهم على الشعب العراقي، وأن فسادهم وسرقاتهم وسوء إدارتهم للبلد، هي مكرمة لهم لدورهم في غزو العراق الذي يعتبرونه تحريرا، ويرون أي مطالبة بالحقوق هي مؤامرة عليهم، لذلك عندما فقدوا الدعم الديني الداخلي، ولوا وجوههم نحو الدعم الديني الخارجي، الذي هو في الحقيقة دعم مستمر لم ينقطع طوال السنوات الماضية، وهدفه استقطاب التقليد الديني إلى الحوزة الدينية في قم، وتقويض السلطة المعنوية لمرجعية النجف، لذلك وجدنا المرشد الأعلى علي خامنئي يسبغ بركاته على نوري المالكي بالقول إنه بطل تاريخي هزم أعداء العراق والاسلام، ثم يُعظّم من دوره بالقول إنه أحد أبطال جبهة المقاومة والممانعة في المنطقة، في وقت كانت شعارات المتظاهرين ولافتاتهم والصور التي رفعوها تؤكد على الدور السيئ الذي لعبه هذا البطل التاريخي، كما كان تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية بخصوص أحداث الموصل، قد أعلن بأن المالكي هو المتهم الرئيسي في احتلال «تنظيم الدولة» لها، وهو من يتحمل كل الكوارث والتضحيات البشرية والمادية التي تلت ذلك الحدث، ولا يمكن للذاكرة أن تنسى كل الاتهامات التي ساقها أعضاء بارزون في البيت السياسي الشيعي، للمالكي سابقا وحتى اليوم.
إن التظاهرات العراقية الأخيرة هي مسؤولية الجميع، وأن أي تخل عن قول الحقيقة في هذا الظرف يعطي لوجوه الفساد زخما معنويا هم بأشد الحاجة اليه اليوم. ولأن العامل الروحي هو الدفعة الأخيرة التي تستلها النفوس كي تدافع به عن وجودها وإنسانيتها، فإن التبريكات المقدسة اليوم يجب أن تذهب إلى كل المتظاهرين في كل الساحات العراقية، وأن يشد رجال الدين على أيديهم ويقدموا لهم الدعم المعنوي، من خلال سحب أو تكذيب الفتاوى التي يتبجح بها هؤلاء الساسة، الذين يدعون بانها كانت لدعمهم. فالمنابر الدينية لكل الطوائف في كل بيوت الله، يجب أن تُكرّس للدفاع عن الشعب العراقي، الذي واجه أبشع الجرائم في حقبة سلطة الاحزاب الدينية، التي أثبتت من خلال سوء ادارتها بأنها لا تمت للدين بصلة ولا تعرف أي معنى للانسانية. ولان التزامات الطبقة السياسية العراقية تجاه الحكومة الايرانية أكبر من أي التزام آخر، فإنهم سيقومون باستثمار تأييد خامنئي والمرجعيات الأخرى في إيران في تكفير وتخوين المتظاهرين، وهذا بدا واضحا في بيان حزب الدعوة الاخير بعد عودة المالكي من طهران، الذي عظّم ومجّد وأثنى على دور البطل الشجاع الحاج نوري المالكي، على حد وصف البيان، في تحد واضح لإرادة الشعب العراقي الذي ما انفكت أصواته تنادي بالقصاص من هذا الرجل، وهي محاولة مفضوحة، الهدف منها تشكيل فريقين أحدهما مع والاخر بالضد من المالكي وبقية الساسة، لغرض إشعال حرب أهلية تلقي تبعاتها على المتظاهرين، كما ألقيت سابقا تهمة القاعدة والارهاب على مظاهرات الانبار والمحافظات الاخرى. إنها مهمة جديدة يجب أن تتصدى لها المرجعيات الدينية بكل أشكالها الطائفية، وألا تبقى مواقفها تأتي في مرحلة تالية للفعل الجماهيري، إذا كانت فعلا تريد القيام بدورها في قضية كبرى يواجهها الشعب العراقي. سؤالنا الاخير هو أين خالد الملا رئيس جماعة علماء العراق مما يجري في بلده، خاصة أن المظاهرات انطلقت من مدينته البصرة، وهل سيدعو إلى موقف صارم من المظاهرات كدعوته السابقة ضد مظاهرات الانبار؟ بل أين الشيخ مهدي الصميدعي مفتي أهل السنة والجماعة، ولماذا آثر الصمت مما يجري؟ أم أنه نسي دوره في قول الحق عند سلطان جائر؟ يبدو أنهما مازالا ملتزمين بعهد السمع والطاعة للمالكي، لذا هما يفضلان أروقة المنطقة الخضراء على ساحة التحرير.
٭باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله