د. مثنى عبدالله
ما الذي يدفعنا إلى أن نبيع كل ما نملك كي ندفعه أجرة لرحلة موت على ظهر قارب صغير في بحر هائج؟ أو في شاحنة مخصصة لنقل اللحوم أو البضائع على طريق دولي؟
أين هو هذا الفردوس الذي يستحق منا التضحية بنسائنا وصغارنا الذين لم يبلغوا بعد الشهر من العمر؟ أم أن الموت هو بعينه بات فردوسنا الذي نبحث عنه كي نتخلص من حياة نعيش فيها، لكننا نحسد الأموات على موتهم لأنهم لا يشعرون ولا يعانون ما نعاني؟ ما قيمة أن نستنشق الهواء بلا كرامة ولا خبز ولا مستقبل؟ هل بتنا في حالة مقارنة عن أيهما أفضل، الموت بغاز الكلور والبراميل المتفجرة كما يحدث يوميا في سوريا والعراق، أم الشواء ونحن أحياء معلقين على الاشجار بأيدي الميليشيات، أو على أعواد المشانق حسب قرار قاض يأخذ أمره من جاهل، أجبرنا على الاعتراف بما لم نقترف، تحت وطأة التعذيب والتهديد باغتصاب نسائنا؟ كيف لنا أن نتشبث ونُقنع شابا في العشرينات من العمر قذفته الحياة مع شهادته الجامعية إلى الشارع، أن يبقى في الوطن، بينما الوطن خطفته عوائل أثرت على حساب الفقراء والمساكين، أو ميليشيات جاهلة مسلحة، عمياء صماء بكماء، لا ترى ولا تسمع ولا تتحدث الا بمنطق القتل والتعذيب والاقصاء، ويتسيد زعاماتها المشهد السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي وكل شيء؟ كنا مازلنا في مراحل الدراسة ونسمع من أن شبابا حاولوا الهجرة للعمل أو الدراسة، لكنهم عادوا أدراجهم إلى الوطن بعد أن أصابتهم حالة الشوق إلى الوطن والاهل والاصدقاء (هومسك)، وأخرين حصلوا على شهاداتهم الجامعية الاولية والعليا وعادوا مسرعين إلى بلدهم واهلهم، على الرغم من قضائهم عقدا من الزمن أو يزيد. أتذكر أن في العراق، في سبعينيات القرن المنصرم، صدر قانون سُميّ بقانون الكفاءات العلمية، أعطى امتيازات مادية ومعنوية لكل عراقي أو عربي يعود إلى العراق للعمل فيه، وقد عاد مئات الاف منهم ودرسنا على أيديهم في الجامعات. كان الكثير منهم قد قضى عقدين أو ثلاثة عقود في بلدان غربية متطورة، بل أن بعضهم كان قد تزوج من تلك البلدان وكوّن أسرة.
إذن هل كانت بلداننا العربية على مستوى من التطور والرُقي تستحق المجازفة، كي يبدأ هؤلاء حياتهم من جديد وتصبح عامل جذب لهم للعودة؟ يقينا لا، لكن السبب الحقيقي هو الشعور بأن هنالك مستقبلا من خلال قراءتهم للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن خلال الحركة المادية والمعنوية التي تنفذ على الارض. إذن عندما يكون هنالك شعور بأن الحاضر، حتى لو كان صعبا، هو إطلالة على المستقبل، يتولد عزم دافع للتشبث والبقاء في الوطن، والتضحية في سبيله بالغالي والنفيس. هذا الشعور هو الذي دفع عرب فلسطين كي يشكلوا منظمات فدائية في سبيل تحرير بلدهم، وهو الشعور نفسه الذي دفع الاف العرب من كل اقطارنا للانخراط في ذلك العمل البطولي، لان قراءتنا للمستقبل آنذاك كانت تشير إلى أن كل أقطارنا العربية هي مجال مستقبلنا، إذن لنظهر على هذا المسرح كل بطولتنا. ربما سائل يعترض بالقول إن الوضع السياسي في تلك الفترة كان سيئا أيضا، ونحن نقول نعم هو كذلك، لكن التغير الذي حصل في النظام السياسي العربي، أنه انتقل من حالة تسلطية إلى انتفاعية، أي أن الزعامات السياسية لم يكونوا يعتبروا الدولة ملكهم. كانوا يعتبرون الدولة أداة للسيطرة والحكم غير الديمقراطي، لكنها لم تكن مصدرا للاثراء لهم ولاولادهم وحاشيتهم وميليشياتهم.
كان من يُعتقل يعرف أهله مكان اعتقاله إما في الأمن أو المخابرات، وعندما يُعدم تأتي به الدولة إلى بيت اهله وتسلم جثته لهم، وكانت الخطوط الحمراء التي يجب عدم المساس بها معروفة. في الوقت نفسه كان هنالك شارع يُبنى ومصنع يُشيّد، ومدرسة وجامعة تقام، وتنمية اقتصادية واجتماعية ترتفع قوائمها على أرض الواقع ، على الرغم من أن سعر النفط لم يكن اكثر من 10 دولارات أمريكية. اليوم كل حزب وميليشيا ورجل دين وسياسة لديهم أجهزة أمنية ومعتقلات خاصة بهم، ومحاكم دينية ومدنية، وعندما يُعدم إنسان ما تلقى جثته على المزبلة في الشارع العام. ورغم أن أسعار النفط ارتفعت، لم نجد شارعا أو مدرسة أو مصنعا يقام، لأن الموارد جميعها وضعت في جيوب القائمين على السلطة.
نعم هنالك صحف وقنوات تلفازية عديدة ومظاهرات، عكس السابق حيث كانت فقط صحيفة الحزب والقناة التلفازية الرسمية الوحيدة، لكن شعار المنتفعين اليوم هو «دعهم يقولون ما يريدون ونحن نفعل ما نريد». هذا التحول خلق جيوشا من العاطلين عن العمل، وتملُك الدولة بهذا الشكل أدى إلى رفض أخلاقي لها، لانها لم تُدخل عناصر المنافسة الشريفة بين الناس للحصول على الفرص.
وفي ظل هذا الوضع الجديد حتى الوطن كمفهوم حصل عليه خلاف، بل بات الكثيرون يتساءلون عن مكان وجوده أصلا، هل حدوده هي حدوده طائفية أو اثنية أم عشائرية؟ وهل الخيمة الوطنية وجودها في الطائفة أو الاثنية أم العشيرة؟ هذه التناقضات خلقت حالة من الهلع لدينا والشعور بضياع الهوية والتغريب في أوطاننا، وبات السؤال الاهم، هل من الافضل أن أنتظر البرميل المتفجر يسقط على بيتي ويقتل عائلتي وأطفالي، أم نموت معا في شاحنة يُوصد أبوابها علينا المهرب، بينما نحن نحلم بالوصول إلى بلد آخر؟ أو نغامر بركوب البحر في قارب صغير متهالك، بينما يمتد بصرنا إلى البعيد حيث حُلم العيش بدون ميليشيات، وشواء البشر على جذوع الاشجار؟
لكن مسؤولية موت أكثر من 50 مواطنا سوريا، بينهم نساء واطفال، في شاحنة نقل اللحوم التي تم اكتشافها الاسبوع الماضي متوقفة على الطريق السريع جنوب العاصمة النمساوية فيينا، والذي وصفته وزيرة الداخلية بأنه يوم أسود، وكذلك المئات الذين قضوا غرقا في البحر المتوسط قبالة السواحل الليبية والتركية والايطالية والاسبانية والمغربية، ليست مسؤولية النظامين السوري والعراقي فقط، بل هي مسؤولية كل الانظمة السياسية العربية. أحصوا أعداد العمالة الاسيوية والخبرات الغربية في بعض المجتمعات العربية، ستجدون بأنهم أكثر آلاف المرات من كل هؤلاء الذين ينتظرون على السواحل للهجرة. أسألوهم لماذا تركوا العلماء والمثقفين والادباء والمفكرين وأساتذة الجامعات والضباط العراقيين والسوريين والفلسطينيين، فريسة سهلة للميليشيات والبراميل المتفجرة والبحر المتوسط، والمهاجر كي تستفيد من علومهم وخبراتهم.
ألم يكن من الأجدر أن تحتضن كل هؤلاء أقطارنا العربية الاخرى التي لديها وفرة مالية وقلة في عدد السكان، بدل التفريط بهم بهذا الشكل المريع؟ إن هذه السياسات الفاشلة لم تُضيّع مليارات الدولارات العربية التي صُرفت على هؤلاء لإعدادهم وتطويرهم فحسب، بل ضيّعت ملايين الفرص كي يُطوّر العرب أنفسهم بقدراتهم المحلية وليس الاجنبية، بل الضرر الأكبر أن هذه السياسات تساهم يوميا في إضعاف الشعور بأننا أمة، فتهدد مستقبل أجيالنا، وتُعجّل من ذوبانهم في مجتمعات أخرى.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله