وأخيرا اعترف بلير بخطأ صفقته التي استباحت دماء العراقيين
د. مثنى عبدالله
October 26, 2015
■ في مقابلة مع قناة «سي أن أن» الامريكية، وبعد مرور أكثر من اثني عشر عاما من رفض الاعتذار، أخيرا يعترف ويعتذر توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، عن سلوكه الذي أدى إلى الجحيم في العراق.
في عام 2004 وفي مجلس العموم البريطاني، قال الرجل أنا لن اعتذر عن المشاركة في القتال لأنه قرار صحيح، بل أردف بالقول إننا يجب أن نكون فخورين للغاية في كل ما نقوم به في هذا البلد. وفي عام 2007 عندما كانت السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، وفـــــرق الموت كلها تحتفل بسفك دماء الأبرياء في كل مدن العراق، قال توني بلير أنا لا أتحمل مسؤولية من يرسل سيارات مفخخـــــة إلى أماكن التسوق، ثم تلتها مواقف كثيرة له، جميعها كان يجمع فيها على صواب موقفه ويرفض الاعتذار، فما الذي حدث؟ وهل هي صحوة ضمير متأخرة؟
قد ينظر البعض وللوهلة الأولى إلى اعتراف بلير بأنه لحظة تاريخية، وأنها ستعجل في قرب ظهور اعتراف دولي واضح وصريح بالجريمة التي ارتكبها المجتمع الدولي بحقنا، فتمتلئ الأرض عدلا بعد أن ملأها قرار غزو العراق ظلما وجورا، وقد يمثل جورج بوش وتوني بلير وغيرهما من الذين تسببوا بالمأساة أمام محاكم دولية عن الجرائم الإنسانية التي اقترفوها بحق العراقيين، لكن كل هذه مجرد أحلام غير واقعية في عالم اليوم، لأنه حتى المحاكم الدولية التي أنشئت لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الإبادة الإنسانية، كان الأقوياء المتحكمون بمصائر العالم هم من انشأوها، لذلك لم يجر فيها التطرق إلى الجرائم التي ارتكبوها هم، وعندما أبرمت الاتفاقية المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية، رفضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وطلبت من الدول التي ستنظم إليها أن توقع اتفاقات خاصة معها، تمنعها من اللجوء للمحكمة الدولية في جرائم ممكن أن ترتكب من قبل مسؤولين وعسكريين أمريكيين. هذه أمثلة واضحة على طبيعة العلاقات الدولية القائمة واستغلالها للقانون الدولي. المبدأ أن العدالة هي مبرر وجود المحاكم الدولية، والسلم العالمي هو مبرر وجود مجلس الأمن، لكن غزو العراق فضح بصورة واضحة جدا تحالف ما يسمى «السلم العالمي والعدالة الدولية»، بعد أن اثبت الواقع الفعلي عدم وجود أسلحة دمار شامل عراقية، بل أن مجلس الأمن والمحاكم الدولية كليهما كانا ركنين اساسيين في التغطية على جرائم الحلفاء في العراق، بعد أن وقفا عاجزين تماما عن إيقاف المجزرة ونزيف الدم حتى اليوم .
إن ما قام به بلير لم يكن تصرفا فرديا، بل كان يمثل رأي طبقة سياسية معينة في البنيان السياسي البريطاني، فلم تكن بريطانيا منزوعة من أي دافع حين شاركت في غزو العراق، ولم يكن ذلك الفعل تيها بالعشق لواشنطن. كان الدافع الأول الحصول على منفذ سهل على موارد الطاقة، والدافع الثاني استثمار التبعية لواشنطن لتفكيك الاستراتيجيات الأوروبية، وخلق مساحة بريطانية للتصرف المستقل، وهذه الحلقة في السياسة البريطانية بلير هو من خلقها، فبينما كانت فرنسا ضد الغزو، أراد بلير بتحالفه مع واشنطن أن يستغل موقفها هذا، فيشغل المساحة التي تشغلها باريس تقليديا على الصعيد الدولي والأوروبي، وهذا ما كانت تحتاجه بالضبط الولايات المتحدة الامريكية في ذلك الوقت ايضا.
لذا لا يمكن فصل الموقف السياسي البريطاني العام، عن الموقف الذي اتخذه توني بلير في تحالفه الشيطاني مع الرئيس الامريكي بوش. واذا كان الرجل قد أظهر إصرارا عجيبا، طوال السنوات الماضية، على عدم الاعتراف بجريمة واضحة الأركان، فإن اعتذاره اليوم يأتي مُجبرا عليه لا متطوعا، كما انه لا يمثل صحوة ضمير أو مراجعة شفافة لموقف سياسي كان قد اتخذه. فصورة العراق بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام باتت قاتمة السواد، حيث سقطت الكيانات السياسية التي كانت قائمة على أساس الهويات الوطنية، وحلت محلها كيانات سياسية طائفية وإثنية ومذهبية، تثقف بالتشرذم والتفتيت والانقسام والإبادة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي، كما اخترقت الحدود الدولية بين دول المنطقة وغيرها باتت مهددة، وظهرت قوى على الارض هي من خارج المفهوم المتعارف عليه في النظام الدولي. هذه المشاهد لم تكن أصلا معروفة في مرحلة ما قبل الغزو، وبالتالي اتحاد هذه العوامل مع بعضها بعضا شكل عامل تهديد دولي وليس اقليميا وحسب، ما شكل عامل ضغط كبير على توني بلير، الذي لم يستطع الاستمرار بالإنكار، لذا هو يقول اليوم، لا يمكن القول بأن من قام بإزالة نظام صدام حسين في عام 2003 لا يتحمل المسؤولية عن الأوضاع الحالية في عام 2015.
كما أن هنالك عوامل أخرى شكلت ضغطا في اعترفاته، الأول هو الكشف عن وثيقة سرية في الاسبوع الماضي تشير إلى أن بوش وبلير وضعا اتفاقا بينهما قبل عام من الغزو، تعهد فيه بلير سرا بدعم المشاركة في غزو العراق، بينما كان يكذب على النواب والناخبين البريطانيين من أنه يسعى إلى حل دبلوماسي للازمة، كما انه تجاهل تحذيرات عدد من المسؤولين في حزبه من حصول فوضى بعد اسقاط النظام، خاصة من قبل وزير الداخلية السابق لحزب العمال البريطاني ديفيد بلانكيت، الذي تحدى بلير قبل الحرب في تجنب الفوضى، وها هو اليوم يعترف «بالأخطاء في التخطيط، وخطأ في فهمنا لما سيحدث بمجرد ازالة النظام»، على حد قوله.
يضاف إلى ما تقدم أن تطوعه للاعتراف المتأخر هذا، إنما يأتي نتيجة إدراكه أن لجنة تشيلكوت التي تحقق في أسباب حرب العراق، سوف تتهمه بالكذب واخفاء الحقيقة عن البريطانيين، والتسبب في اضرار بالغة بسمعة بريطانيا، وفي إزهاق أرواح جنود بريطانيين قضوا في الحرب، لذا فإنه قام بهذه الحركة الاستباقية بدلا من أن يضطر لذلك لاحقا، على الرغم من أن كل ما ستأتي به هذه اللجنة لن يغير قناعة المواطنين البريطانيين، من أن ما قام به توني بلير كان حربا دموية مكلفة وغير مبررة إطلاقا، وإنه كان مدفوعا بتبعية عمياء إلى جورج بوش.
السؤال الأهم هو كيف يمكن تكييف اعتراف بلير قانونيا في صالح شعبنا في العراق؟ والجواب على هذا السؤال ببساطة تامة هو أن المحاكم الدولية أنشئت لنا وليس لهم، ضدنا وليس عليهم، لغاياتهم واهوائهم وليس لنيل حقوقنا. كل الذين مثلوا أمام المحاكم الدولية كانوا هم المهزومين وليس المنتصرين.
لنا نحن مجلس حقوق الإنسان الذي تطلق فيه الخطب الرنانة، وتفبرك فيه البيانات الانشائية المليئة بالتنديد والشجب والاستنكار.. لنا جمعية الحقوقيين العرب والمحامين العرب في لندن وغيرها من العواصم الاوروبية، ولنا كذلك ما تسمى بالمحاكم الشعبية والبرلمانية التي ينظمها البعض في عواصم اوروبية تنتهي ببيان يدين ويشجب ويقترح. هل يعقل أن يقوم من جاءوا مع المحتل بتقديم طلب حكومي إلى الامم المتحدة يطلبون فيه تعويضات عن الحرب، ومثول بلير وبوش وغيرهم امام المحاكم الدولية؟
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله