من يُهدد الأمن الوطني العراقي… مُهجرو الأنبار أم زوار إيران؟
د. مثنى عبدالله
December 7, 2015
تدفق آلاف الزوار الإيرانيين والافغان في الاسبوع المنصرم إلى العراق، عبر الحدود مع إيران من منفذ زرباطية في محافظة واسط. كانوا يرومون زيارة العتبات المقدسة في كربلاء، للمشاركة في ذكرى أربعينية سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما.
الغريب في الأمر أن آلافا من هؤلاء لم تكن لديهم تأشيرات دخول، بل حتى لم تكن لديهم جوازات سفر نافذة. والأكثر غرابة في الموضوع هو إصرارهم على الدخول بطريقة اقتحامية، حيث شاهدنا المئات منهم، كما نقلته بعض القنوات الفضائية، يساند بعضهم بعضا في كسر الحاجز الذي يفصل الحدود، ثم خلع بوابة المنفذ وطرحها أرضا، ويتدفقون من كل حدب وصوب في الاراضي العراقية، في حين لم نجد أي عنصر جيش أو شرطة من الجانب الايراني يردعهم وهم متجمعون، كما اختفى المسؤولون من حرس الحدود ومكتب الإقامة في الجانب العراقي تماما.
أما على الجانب الرسمي، فلم نسمع سوى عبارات الشجب والاستنكار والحديث عن السيادة العراقية، التي تثبت الأحداث يوميا أنها غير موجودة إطــــلاقا في العقل السياسي الايراني، لانها أصلا لا معنى لها في القاموس السياسي العراقي في الوقت الحاضر، فكيف نطلب من الآخرين التقيد بشيء لم نعمل مخلصين للحفاظ عليه وصيانته وتعزيزه، بل كان من الاجدر بالسلطات العراقية أن لا توجه اللوم إلى السلطات الايرانية، التي قالوا إنها تعمدت أن تجعل الحشود تتدفق بطريقة غير منضبطة، بهدف الضغط على مسؤولي المنفذ لفتح الحدود بشكل غير قانوني، وبحجة عدم مقدرتهم على السيطرة على الداخلين من طرفهم.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار المشاركة الايرانية الواسعة في التحضير والتهيئة للمناسبات الدينية في العراق، مثل استخدام القوات المسلحة الايرانية والطيران الحربي في ما يسمى حماية الزائرين، إضافة إلى المشاركة في عمليات بناء التوسعة للاضرحة والمزارات في بغداد وكربلاء والنجف وسامراء، تصبح لدينا حزمة كبيرة من التبريرات التي يستطيع الجانب الايراني استثمارها جيدا في فرض إرادته، في مسألة دخول الزائرين إلى الاراضي العراقية، بغض النظر عمن يوافق أو يرفض من الجانب العراقي.
وإذا كان البعض يعتبر أن اختراق الحدود العراقية، الذي جرى مؤخرا من منفذ زرباطية، مجرد حادث أمني عابر، وينبغي تجاوزه، على اعتبار أنه جاء في ظرف خاص لأداء طقوس دينية وليس لهدف آخر، كما أنه حدث من جانب دولة ليست في حالة عداء مع العراق، بل في حالة اندماج سياسي واقتصادي وعسكري وأمني، إلى حد تبعية عراقية مطلقة، فإن التبعات الحقيقية لهذا الحدث ذات أبعاد خطيرة جدا. فالتجاوز الاخير يشير وبصورة واضحة لا لبس فيها، إلى أن السلطات العراقية غير قادرة تماما على السيطرة على المنافذ الحدودية الرسمية، فكيف بها تستطيع مراقبة الحدود على مسافة تمتد إلى ما يقارب 1500 كم، هي طول الحدود العراقية التي تربطنا بإيران؟ فكما هو معلوم أن التسلل عبر الحدود يأتي دائما من غير المنافذ الحدودية الرسمية، وبما أن الصورة الاخيرة تشير إلى أن البعض قادر وبالقوة على الدخول إلى الاراضي العراقية، من دون أي مستمسكات ثبوتية رسمية، وأمام أنظار المسؤولين عن حماية المنفذ، فإننا نصبح قادرين على التكهن بالاعداد التي تدخل من منافذ أخرى غير معروفة، هذا أولا.
أما ثانيا، فإن المسؤولين العراقيين صرحوا علنا بأن هنالك ما يقرب من 150 الف أفغاني دخلوا بدون جوازات سفر أو حتى هويات تؤكد شخصيتهم، فكيف يمكن أن يكونوا تحت سيطرة السلطات العراقية، وما هي الوسائل التي تمكنها من إعادتهم إلى الجانب الايراني من الحدود بعد انتهاء المناسبة؟ فالذوبان فـــي المحيط المجتمعي في محافظة كربلاء خاصة سهل جدا، لكونها مدينة ذات رمزية دينية، تسمح باختلاط وذوبان مختلف الاقوام، من دون أن يشعر بهم أحد، لأن سبب الوجود، ديني ومعروف ويمكن التساهل فيه، كما أن خلق مصدر رزق والعيش منه سهل جدا في ظل الاعداد الغفيرة من الزائرين، الذين هم في حاجة إلى كل شيء.
لقد كان هذا الظرف سببا رئيسيا في اختلاط وذوبان مواطنين كثر من إيران وأفغانستان وباكستان وغيرها، في بداية تأسيس الدولة العراقية، عندما كانت الحدود منفلتة، وتزوج الكثير منهم وأنجبوا وحصلوا على الجنسية العراقية بطرق شتى.
كما حصل الشيء نفسه في بغداد أيضا، عندما أتى مواطنون كثر من أفغانستان وباكستان والهند وأستقروا جوار الشيخ عبدالقادر الكيلاني والإمام الاعظم، ثم أصبحوا مواطنين عراقيين بالتجنس. قد تكون هذه الاختلاطات غير ذات أهمية قصوى عندما تكون الدولة في عافية وقوانينها صارمة، ويمكن أن تنفذ على الجميع، لكن عندما يكون الوضع كما في الحالة العراقية اليوم، فإن مخاطر التغيير الديموغرافي تهدد البنية الاجتماعية في العراق عامة، وفي هذه المناطق ذات الصفة الدينية على وجه الخصوص.
إن تصريحات المسؤولين العراقيين التي كانت في حالة ميوعة تامة، والتبريرات التافهة التي ساقوها لتبرير عدم التصدي الجدي في حماية الحدود، تثير سؤالا كبيرا عن أسباب هذا الموقف اللين في مقابل موقف صلد وعدواني، استخدم ضد أبناء محافظة الانبار القادمين عبر جسر بزيبز، حينما حاولوا الالتجاء إلى أقرباء لهم في بغداد هربا من العنف الدائر في المحافظة.
لقد أظهرت القوات الامنية والعسكرية والشرطية كل بطولاتها في وجه شيوخ مرضى، كانوا محمولين على الاكتاف من قبل ابنائهم، وعجائز كُنّ يُنقلّن بعربات بيع الخضراوات، ومُعاقين يتقافزون على قدم واحدة، وأطفال رُضّع يتلوون على صدور أمهاتهم. كانوا جميعهم عراقيي الاصل والانتماء والهوى. كانوا يحملون هوياتهم الشخصية، وشهادات اثبات عراقيتهم، وبطاقاتهم التموينية المثبت فيها عناوين سكنهم كاملة، لكن السلطات منعتهم من دخول بغداد، بل طالبت المرضى ممن في حالات سيئة جدا بإحضار كفيل، وضرورة مراجعة أقرب مركز أمني لتسجيل وصولهم، ومع ذلك تم إطلاق النار على البعض منهم، ومات من مات منهم فوق الجسر المذكور، وتحول المكان إلى ثكنة عسكرية احتشد فيها آلاف من الجيش والشرطة وقوات الامن، وكانت هنالك زيارات مكوكية من المسؤولين في شتى المستويات، للمشاركة في إلقاء نظرة على القادمين من الانبار، وتوجيه القوات بضرورة التصدي البطولي لهم.
كما صدرت بيانات من مجالس المحافظات المجاروة بعدم الموافقة على دخولهم، وتم نصب السيطرات الامنية في المداخل لمنع كل متسلل يتجرأ على دخول المحافظة. السؤال المهم هو ما هي شروط المواطنة في عراق اليوم ؟
إن استخدام إيران للموجات البشرية في الضغط العسكري عرفناه في الحرب العراقية الايرانية، حيث كانوا يزجون بآلاف مؤلفة من البشر حتى بدون سلاح، لتفجير حقول الالغام، كي تحدث ثغرة تدخل منها قواتهم وتحتل المدن، واليوم يزجون بمئات الالاف من مواطنيهم ومواطنين دول أخرى كي يدخلوا إلى العراق بحجة الزيارات الدينية، لكن من يستطيع تبرئتهم من محاولات التلاعب بالنسيج المجتمعي لاهداف مستقبلية، أو المطالبة بجعل المناطق التي فيها مزارات دينية مشاعة مستقبلا؟
باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله