يحاربون بالرايات الدينية
د. مثنى عبدالله
January 18, 2016
■ من أقصى العراق إلى أقصاه، ومن شرقه حتى غربه، ترتفع الرايات الإسلامية خضراء وحمراء وسوداء، مشيرة إلى وجود الدين وجنده.
وفي كل بقعة من أرضه تنتشر عمائم بيضاء وسوداء وخضراء، بعضها معصوبة على الرؤوس وبعضها منشورة على الاكتاف، حتى باتت أوثق هوية طائفية بديلا عن الهوية الوطنية، وفي مرقـــــد كل رمز ديني توجد حركة إعمار وتذهـــــيب قباب وتهديم دور مجاورة، كان يشغلها أناس فقراء، بعد أن بات المرقد في حاجة ماسة إلى التوسعة، كي يستوعب هذا الكم الهائل من الناس، اللائذين بالدعاء على الظالم هذا والسارق ذاك. وحدها المراقد تشهد حركة إعمار في العراق وما بعدها كله خراب في خراب، لأننا في زمن المد الطائفي، وكل بحاجة إلى رمز له يتحصن به ضد الآخر، ويفاخر به، إلى الحد الذي أجبرناهم على أن يكونوا سنة أو شيعة وهم أموات، كي تندلق الأموال من الحواضن الإقليمية للشيعة والسنة على خزائن المراقد، فهنا في هذا الوطن لم تكتف القوى الإقليمية باستخدام الطوائف لأغراضها ومصالحها وأمنها القومي وحسب، بل جاوزتها إلى جعل المراقد بؤرا ثقافية لتركيز الطائفية، كي ينسل المنشار في الجسد الواحد ويصنع الاختلاف، حتى انتفخت خزائن الوقفين السني والشيعي بالأموال، وبات هذان المنصبان أهم من وزارات الصحة والتعليم والإسكان والشؤون الاجتماعية، لأنهما باتا منصبين سياديين لكل من الطائفيين السنة والشيعة، بوزن الوزارات السيادية الأخرى في العراق، أو ربما أهم.
في ظل كل هذا المشهد تأتي أحداث المقدادية لتؤكد ما ذهبنا اليه، فهي ثاني أكبر الأقضية في محافظة ديالى بعد مركزها بعقوبة، وتقع شمال العاصمة بغداد بنحو 90 كم، ويقطنها ما يقرب من 300 ألف مواطن، وإذا كانت هذه المدينة تشهد ومنذ أسبوع تقريبا، تطهيرا عرقيا واضح الملامح والأبعاد، ومحاولات مستميتة لتغيير بنيتها الديموغرافية، فإن هذا المخطط يسري على كل محافظة ديالى منذ سنوات، وأن المراقب للوضع فيها يجد من السهولة تأشير حالة الصراع السياسي، بسبب موقعها الإستراتيجي القريب من الحدود الإيرانية من جهة، ولقربها من العاصمة بغداد من جهة أخرى، وبالتالي فإن خروجها عن سيطرة أحزاب الإسلام السياسي، سيجعلها محطة تهديد لسلطتهم في بغداد أولا، كما سيقطع طريق تمدد حليفهم الإيراني فيها، باتجاه محافظة صلاح الدين ويجعله مكشوفا، من هنا يأتي التلاعب الدائم بحكومتها المحلية، والتغيرات المستمرة في مجلسها ومنصب المحافظ فيها، مضافا إلى ذلك كله هو حالة الكراهية الشديدة للعشائر العراقية القاطنة فيها، من قبل أحزاب السلطة وميليشياتها، حيث كانت منظمة مجاهدي خلق الايرانية المعارضة لديها معسكر كبير في هذه المحافظة، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، ومن خلال وجودهم في المنطقة بنوا علاقات متينة مع أغلب العشائر هناك، لتأمين المعســـكر والحفاظ على سلامة مقاتليهم، كما أن العـــامل الآخر الذي عزز هذه الكراهية، هو اتخاذ تنظيم الدولة من أطراف هذه المحافظة معاقل استراتيجية له، خاصة في منطقة جبال حمرين، وبالتالي بات سكانها متهمين بتسهيل تحركات عناصر التنظيم، من هنا جاءت الأحداث الأخيرة في المقدادية قائمة على أساس هذا الشك، فبعدما أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن التفجير الذي حصل في أحد المقاهي الشعبية في المدينة، وعلى الرغم من أن الضحايا كانوا من طوائف وليس من طائفة واحدة، لكن حالة الشك والتخوين فرضت نظرتها العوراء على المشهد، فانطلق الرعاع في سيارات الدولة يجوبون شوارع المدينة، مطلقين من خلال مكبرات الصوت إنذاراتهم بضرورة مغادرة بعض العشائر للمدينة، وأن يترك بعض السكان مساكنهم، على أسس الاختلاف الطائفي، وتم سلب ونهب وحرق المحال التجارية العائدة لهؤلاء، وقتل العديد من الأبرياء في الشوارع وأمام دورهم، وتفجير ما يقارب الثمانية مساجد.
إذن نحن أمام زمر تحارب الله علانية باسم الدين، وتقتل خلقه من دون ذنب، وتهدم بيوته التي لن يصمد أي سبب، ليكون مبررا للقيام بهذا العمل، ورغم ذلك، لو عدنا إلى ردود الفعل التي جاءت على الأحداث لوجدناها إما متواطئة أو مبررة أو على استحياء، وهذا هو حال جميع الأطراف، مراجع دينية ومراجع سياسية سنة وشيعة، فرئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، زار المحافظة بينما لم يقم بزيارة إلى المقدادية التي يذبح أبناءها كالخراف، وعلى شاكلته توجه رئيس البرلمان العراقي لزيارة المحافظة، ملقيا خطبة عصماء على مسامع القادة الأمنيين، من دون أن يمتلك الجرأة والشجاعة كي يسمي الاشياء بأسمائها، ويحدد الجهات التي تقوم بعمليات القتل والتهجير، وهو مُحق في ذلك، لأن حزبه الاسلامي، حاول مرات عديدة أن يطمر حقيقة ما يحدث في ديالى، بتوافقات سياسية بائسة مع هذا الطرف أو ذاك، أسألوه أين هي هويته الجديدة، بعد أن سمى قائمته الانتخابية، ديالى هويتـــنا، ماذا قدم لهذه المحافظة؟ وهل حصّن دم ومال وعرض أهلها؟ أم أنها ذهبت كالسراب لحظة تسنمه المنصب؟ كما عقد تحالف القوى العراقية البائسة، ممن يسمون أنفسهم ممثلي السنة، اجتماعا عاجلا لهم، رامين خيبتهم وفسادهم على عاتق الامم المتحدة، ومهددين باللجوء إليها في طلب الحماية لسكان المقدادية، وكأنهم معارضة في الخارج وليسوا مستوزرين ونوابا وزعماء كتل وشركاء في العملية السياسية، يقول لي مراسل إحدى القنوات العربية في العراق بأنه بذل المستحيل كي يستجلي الامر، ويحاول الحصول على تصريح منهم، لكنهم كانوا يتهربون منه بغلق هواتفهم. أما رئيس الوقف السني، فالرجل يعرف أن منصبه سياسي، فترك لقبه الديني كما ترك بندقية الكلاشنكوف التي صعد بها إلى منبر الجمعة قبل الاحتلال، ثم تخلى عنها لحظة دخول الامريكان، واكتفى بلعنهم في قلبه كأضعف الإيمان، وها هو اليوم يستنكر فقط وكأن من يقوم بكل الجرائم مجهول أتى من خارج الفضاء، كما من حقنا أن نسأل أين صوت الشيخ الصميدعي وخالد الملا من هذه الجرائم؟ أم أن مؤسساتهم الدينية مفصّلة للدفاع فقط عن السلطة التي بنتها لهم؟
السؤال الأهم هنا، إذا كانت الدولة تضخ للعالم أجمع أخبار تحرير قواتها العسكرية والأمنية، المدن والمحافظات العراقية التي سيطر عليها تنظيم الدولة، وتقول إنها ماضـــية في تحرير ما تبقى منها، إذن لماذا هــــذا الذي يجـــري في المقدادية؟ وما هي الجهات التي ترتكب كل هذه الجرائم؟ ومن الذي يحاصر المدينة ويمنع حتى دخول القوات الحكومية إليها؟ على الرغم من أنها أقرب المدن إلى العاصمة.
يقينا أن في العراق حكومة لكنها لا تحكم، وأن هنالك قوى سياسية ومليشياوية تنفذ التزاماتها الخارجية على حساب العـــراق، وطنا وشعبا، وأن هذه الالتزامات توازن وجودهم في السلطة، وأن فعلها يهدد حدود سايكس بيكو القديمة، وسيفرض حدودا جديدة أسوأ من الحدود الحالية التي نعرفها.
٭ باحث سياسي عربي
د. مثنى عبدالله