أسئلة حول أدب الطفل
صلاح بن عيّاد
7/27/2010
أن تكتب كتابا ( وتجدر الإشارة هنا إلى أن المقصود بكتاب الطفل هو القصّة أساسا والرّواية إن وجدت) من أجل الطفل معناه أن تكلف نفسك عناء العودة وحلاوتها لطفلك الخاصّ. فكاتب أدب الطفل لا يملك من الآليّات سوى طفله المخبأ في الذكريات. ها هنا تصعب الكتابة لأوسع شريحة قارئة في العالم على الإطلاق ولهذا السّبب يظلّ أدب الطفل شحيحا وغير مجار للنسق الذي تتلاحق وفقه الأجيال الناعمة. هو شأن العالم ـ نكاد نقول - فالكبار ومنهم الكاتب لم يعد قادرا على تبسيط الأشياء، ولا قادرا على انتحال طفله القديم ولا على ابتكار طفل في داخله المعقّد.
نحرّك في هذه المادّة سنابل الأسئلة المتماوجة والمتعلّقة بهذا الأدب، الشأن والمسؤوليّة التي أخالها على كاهل كلّ من امتهن الكتابة، ذاك الذي يحمل في وجهه أزمة القارئ غير منتبه إلى أن 'القراءة' تعلم منذ النعومة الأولى إذ الكاتب الذي يشدّ بأيدي الأطفال سيعيش طويلا كما يقال، فالطفل مستقبل كل قارئ لكل كاتب. قد يهمّنا من هذه القضيّة جانبها المتحرّك في الوسط العربيّ. وسيبدو لنا أنه من المجازفة كتابة مادة عن الأدب العربيّ الموجه للطفل. أنا أتخيّل متصفّحا لجريدة ما يبحث في الشأن الثقافيّ والسياسي والاجتماعي، أكاد أقول يبحث في شأن الكبار( شأنه)، أمّا الطفل فمودع مع لعبه والكتب التي لم نكتب والأفلام التي لم ننجز والمعلم الذي قد يكون لا يقرأ هو نفسه فلا يقوى على عبارة 'طالعوا أيها الأطفال'، هذا إضافة إلى فعل 'قرأ' مثله مثل فعل 'أحبّ' لا يمكن تصريفه في الأمر كما يقول كاتب الأطفال 'دانيال بانّاك'، أضف إلى أنّ التعليم أكاد أجزم قد أصبح صنعة شأنه شأن الحدادة والنجارة وفقد بذلك نكهته الإبداعيّة، أو قل فقد ذاك الفن الذي يمكن أن نطلق عليه اسم 'فن الارتجال'. هل سيتوقف القارئ ذاك الماسك لجريدة الكبار عند مادة انتحت مكانا في أقصى الاهتمامات العربيّة على ما يبدو وهو 'الأدب الموجه للطفل'؟
الكتابة مجازفة
قد يعتبر الكاتب للطفل أبا للطفولة أو قل مربّيا خالدا لها. هكذا كان شارل بيرو Charles Perrault الكاتب الفرنسيّ ( القرن 17) بالنسبة إلى أطفال المغرب العربيّ ( على الأقلّ)، هذا الكاتب الذي نهل منه كتاب عرب بلا عدد بإعادة كتابة قصصه الشهيرة وبالتصرّف فيها والتمرّغ على معانيها. إنه من كتب قصصا مثل 'ذات القبعة الحمراء' أو ما يسميها البعض 'حمراء الحمراء' والتي أنجبت 'ليلى والذئب' العربيّة، 'الأميرة النائمة' أو 'الجمال النائم' التي نوّمها الكتاب العرب وفق أكثر من طريقة من وخز الإبرة فالمغزل إلخ.. وهو كاتب 'سندرلاّ' التي ـ بدورها - تنوع حذاؤها بين الفرو ( النسخة الأصليّة) إلى البلور، الفضّة فالكريستال وغيرها.. ومن كتب أيضا 'جلد الحمار' و' عقلة الإصبع' و' ذو اللحية الزرقاء' وغيرها كثير. إنها القصص التي صنعت نجوميّة 'والت ديزني' ومثّلت مادّة لبرامج ألعاب الفيديو دون أن يكون كاتب كلّ هذا ولو شرارة من تلك النجوم على الأقل في ذهن الطفل القارئ والمشاهد. لقد استطاع بيرّو وببراعة استغلال الخرافة والحكايات الفرنسيّة والأوروبيّة ليعلمنها وليصنع منها جزئيّات أساسية في الذاكرة العالميّة. ها هنا يطرح السؤال الأساسيّ نفسه، فهل نجح العرب في استغلال الإرث الشفوي الفسيح الذي يمتلكه ويمثّل أساسه الثقافيّ؟.
تبدو الكتابة للطفل كتابة صعبة لا لعجز الكاتب على تركيب جمل بسيطة حاملة في طيتها النفس التربويّ والبداغوجيّ فذلك يمكن اكتسابه بل لأن الكاتب الذي يقطع طريقه في الاتجاه الصعب والمعقد سوف لن يقدر على العودة إلى طفله الشخصيّ، وإلى الطفل عموما. ولا نقوى هنا على أن نجزم أن من بين أولئك الكتاب من ينظر بدونيّة للكتابة للطفل، كأن تقصد أن ناقدا للشعر يكتب عن قصيدة النثر ( مثلا) هل سيسترق السمع للجدات كي يحصل على قصّة للأطفال؟ كم هم الكتاب العرب الذين لم تمنعهم كتابتهم للكبار من أن يكتبوا للطفل؟. مع أن هذه الكتابة ستشبه إلى حدّ بعيد قارّة لا تزال جديدة وخصبة لم يطأ الكاتب ولا الناقد عدة جوانب منها كما تعلن إحدى المتخصصات الفرنسيات في أدب الطفل في مقالة عنوانها 'أدب الطفل: القارة التي لا تزال بحاجة للاستكشاف'. لكنّنا في هذه المادة سنقدم ما قدّم الكاتب البولوني إسحاق باشيفيسIsaac Bashevis ـ جائزة نوبل للآداب سنة 1974 من أسباب جعلته يتفرّغ لأدب الطفل ويعود لاحتضان طفله الشخصيّ أو حتى يعاوده من حين إلى آخر فيقول ما معناه أن مئات من الأسباب قد دفعته لهذا النوع من الكتابة لكنه يذكر عشرة فقط كي لا يطيل وهي أنّ 'الأطفال يقرؤون الكتب لا النّقود، إنهم لا يكترثون للنقد / لا يقرؤون من أجل أن يعثروا على هويّة / لا يقرؤون من أجل التخلّص من عقدة الذنب أو لأجل إفراغ ثورتهم أو لأجل أن يتخلّصوا من إحساس الكراهية / ليس لهم ما يصنعونه بعلم النفس التحليلي/ يكرهون علم الاجتماع / لا يحاولون فهم 'كافكا' أو 'فينيغانس ويك' Finnegans Wakeوهو نص للانكليزي 'جيمس جويس' مشهور بصعوبته / لا زال الأطفال يؤمنون بالله، بالعائلة، بالملائكة، بالشياطين، بالسّاحرات، بالعفاريت، بالمنطق، بالوضوح، بالترقين وبأشياء أخرى من تلك التي تعد مهجورة من قبل الكبار/ عندما يتناولون كتابا مملاّ يتثاءبون بلا ضيق ودون أن يشعروا بالخوف أو بالحياء/ لا ينتظرون من الكاتب الذي يفضلون أن ينقذ الإنسانيّة، رغم صغرهم فهم يعرفون أن الأمر ليس من مشمولات الكاتب فوحدهم الكبار من لديهم ذاك الخلط الصبيانيّ.'
ستبدو الكتابة للطفل هنا أقلّ صعوبة عكس ما تقول أغلبيّة غالبة، فما نكاد نثير مشكلة هذا الأدب حتى نجد أنفسنا في حديث غير مبرر في أحيان كثيرة عن صعوبته. لقد احتجنا أحيانا إلى أن نستعين بكتاب 'ألف ليلة وليلة' أو 'كليلة دمنة' واجترارهما أو بترجمات وبسلخ لكتاب غربيين شأن 'شارل بيرّو' المذكور آنفا، ولافونتين La Fontaine أو الأخوين 'غريم' ( 1820) وغيرهم - طبعا لا نستطيع هنا أن ننكر القلة القليلة من الكتاب العرب الذين سخروا حياتهم لهذا الأدب - لكن رغم ذلك كان لا بد من الاستعانة بالكتابة الكلاسيكيّة القليلة استعانة سلبيّة في بعض الأحيان حتى نؤثث مكتبات الأطفال أو حتى نبرمج منها نصوصا في الكتب المدرسيّة.
سيكون السؤال الذي لا بدّ من طرحه في هذا المستوى: هل يمكن الحديث عن أدب عالميّ للطفل؟. الطفل المتميّز بعدم الثبات والمتحوّل بلا انقطاع، الطفل المختلف من جهة إلى أخرى، الذي بالكاد ينفتح على بيئته الضيقة والذي لا يزن قاموسه أكثر من 'غرامين' أمّا مدلولات ما لديه من دوال فلا تكاد تتوازن؟. نطرح هذا السؤال لا أكثر، فلسنا بحاجة إلى القول أن هذا الكائن الحامل لمنطق عجائبيّ طبيعيّ يحتاج أن يتعلّم أشياء مجتمعه، حقيقة الأشياء التي في مطبخه لا أكثر.
إن كان من عمق يكتسبه الطفل فسيكون من وراء الظاهر، وكل ما على الكاتب أن يفعله هو محاولة شدّ جموحه الخياليّ في نظرته العميقة. ألا يقدر كتّابنا العرب من قصّاصين وروائيين وشعراء أن يقوموا بهذا الدّور؟.
يتوه الطفل العربيّ اليوم في سلسلات متحرّكة لا نهائيّة تتوافد عليه من القنوات وفي قصص مكتوبة ومصوّرة أغلبها أجنبيّ، وفي خضمّ الشبكة العنكبوتية ـ بلا مراقبة أحيانا كثيرة - فلنا أن نلاحظ كنتيجة حتميّة لكل ذلك أنّ الالتقاء العائليّ قد تراجع وما عاد للطفل المستهلك للقصص والحكايات بشراهة أن ينعم بإرضاء لميوله للخيال ولا لتعلمه بعض القيم التي تحفل بها تلك الحكايات. إنه طفل يفتقر إلى السرد وإلى الكلام فإلى التعبير الشفويّ والكتابيّ، فماذا علينا كتابته حتّى نفتكّه من كلّ ذلك أيها الكتّاب العرب، وحتّى يكون قارئا مفترضا لما نكتب في المستقبل؟. وهل نقوى اليوم على اقتلاع الطفل القارئ من الكتاب الأجنبيّ الذي يشدّه شكلا ومضمونا؟. طبعا لسنا ضدّ أن يقرأ طفلنا الكتب الأجنبيّة لكننا نحلم أن يلتفت إلى كتبنا، إلى اللغة العربيّة في النهاية.
شاعر من تونس