هل الأفضل تحرير الفلوجة ام تحرير العراق من مائة فصيل مسلح؟
د.عبدالقادر القيسي
بعد احتدام الصراع بين قيادات التحالف الوطني الحاكم بسبب المظاهرات واقتحام البرلمان والفوضى التي عاشتها الدولة العراقية بكافة مفاصلها، ظهر علينا فجأة رئيس الوزراء وهو يعلن عملية تحرير للفلوجة،
وكان اعلان العملية لا ينسجم مع ماقبله من اعدادات ولا يتسق مع التصريحات العسكرية للتحالف الدولي وليس هناك بالأفق ما يشير بوجود خطة عسكرية وشيكة التنفيذ لاقتحام الفلوجة لعدة اعتبارات يفهمها العسكريين لا سيما انها معقل رئيسي يتمركز فيه قادة داعش، وقد حاولت الحكومة السابقة ومن خلال اكثر من 36 هجوم لاقتحامها لكنها فشلت جميعها، المهم يبدوا ان عملية اقتحام الفلوجة كان لأجل وقف احتمالية نشوب قتال بين الفصائل المتناحرة والتي ظهرت بوادره اكثر من مرة، وليست بعيدة تماما عن الخلافات التي تأججت مؤخرا بين أطراف التحالف الوطني.
وخرج علينا السيد رئيس الحكومة وقائدها العام للقوات المسلحة الأسبوع الماضي بتصريح غريب ومؤسف وصادم بانه هناك مائة فصيل مسلح فقط في بغداد لا ينتمون للحشد الشعبي ولديهم هويات مزورة.
أي لدينا سرايا والوية ومليشيات مسلحة تعمل خارج سلطة الدولة، أي انها تمارس اعمال خارج القانون في عاصمة يقطنها أكثر من ثمانية ملايين مواطن.
إن تحرير المناطق وإرجاعها إلى سيادة الدولة واجب على السلطات، لكن الواجب المستعجل هو حماية مركز قرار الدولة وحماية مؤسساتها الدستورية من عبث فصائل مسلحة، وواجب تحرير العاصمة الحبيبة مدينة السلام من المليشيات المنفلتة لهو أسمى وأنبل وأفضل من الذهاب في واجب بدأ بتشويهه وتقزيمه بعض قادة هذه الفصائل المسلحة المنفلتة حينما قاموا بشحذ همم الطائفيين ضد أهل المدينة، وقاموا باحتجازهم وتعذيبهم ووضعوا العراق في موقف حرج امام الدول وخاصة في ظل نشاط دبلوماسي عراقي يقوم بع العراق لتحسين صورته في معركة الفلوجة، مما شكل مصدر استفزاز للأخرين دفعهم إلى النظر للمعركة من زاوية طائفية، بدلا من كونها عملية عسكرية تقوم الحكومة بواجب إعادتها إلى السيادة.
ان هذه الفصائل المسلحة تعد اخطر من أي عمل عسكري او امني تقوم به الدولة العراقية وتحتاج منها ان تقوم بصولة فرسان أخرى(نتحفظ على الأولى) على هذه الفصائل المسلحة لأنها في مركز الدولة وعاصمتها ومصدر هيبتها ورمزيتها، لا ترك العاصمة تسرح بها المليشيات والقتلة والمجرمين والذهاب الى تحرير الفلوجة (تبعد مائة كيلو متر ومحاصرة منذ اكثر من سنة)، ان قرار الذهاب لتحرير الفلوجة او غيرها وترك المائة فصيل مسلح، يجوبون شوارع وازقة العاصمة بغداد، مسالة لا تأتلف مع منطق دفع الخطورة الأشد بالخطورة الاخف وهناك افضل ومفضول وهناك مهم واهم؛ فالمهم تطهير العاصمة بغداد من هذه الفصائل المسلحة والمفضول ارسال رسائل تطمين الى دول الجوار؛ ان ما يحصل في العراق ممكن السيطرة عليه وما موجود في بغداد دولة قانون ومؤسسات وليست دولة فصائل ومليشيات مسلحة، والخطورة الأشد هي في نزع أسلحة هذه الفصائل حتى يأمن المواطن على ماله وعرضه وعائلته لا ان يعيش في فوضى مسلحة.
ان طرح فرضية خطورة الفلوجة على بغداد او انطلاق سيارات مفخخة منها تصريحات تصب في صالح التأجيج الطائفي ولا تنسجم مع العرف العسكري والعملياتي والجهد الاستخباري، خاصة أن منطق السلطة يقول بأن المدينة محاصرة من جميع الجهات منذ أكثر من سنة، وهو منطق صحيح لأن الدليل هو انقطاع الغذاء والدواء عن المدينة، إذن كيف للمفخخات أن تأتي من الفلوجة وتعبر كل سيطرات الجيش والشرطة والحشد؟
كان من المفترض برئيس الوزراء ان يتخذ اجراءاته الفورية والعاجلة والفعالة ضد هذه الفصائل الخارجة عن القانون؛ لتعطي رسائل اطمئنان الى الشعب وتعيد هيبة الدولة التي تبجح بها الكثير عندما اقتحم متظاهرين البرلمان.
ان هذه الفصائل المليشياتية المسلحة تزرع في ذهن مناصريها فكرة معاداة الدولة لتهيمن على كل شيء في العراق وتمنع قيام الدولة، فهناك فكرة ثنائية الدولة والدويلة في العراق التي اوجدها السلوك السياسي والمسلح لهذه الفصائل.
إن الطموحات السياسية للفصائل المسلحة المائة التي انضوت قسما منها مؤخرا في الحشد الشعبي بدأت تلوح في الأفق، عندما بدأت تصريحاتها تأخذ الجانب السياسي الساخط على النظام السياسي القائم للدولة العراقية، وقد حاولت الحكومة العراقية جاهدة تحويل الحشد الى أمرتها؛ في محاولة منها لمنع هذه الفصائل من زيادة نفوذها السياسي والاجتماعي في البلاد.
ولكن محاولات الحكومة العراقية تبدو غير كافية، إذ تتمتع بعض هذه الفصائل المليشياتية وخصوصاً تلك المدعومة خارجيا بنوع من الاستقلالية في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية، كما إنها تتسبب في فوضى في المناطق التي تنتشر فيها، ويتجوّل عناصرها بدون وثائق قانونية ويصعب محاسبتهم عند ارتكابهم أخطاء.
والحكومة وبعض الشخصيات السياسية والأحزاب لمعوا من دور هذه الفصائل المسلحة لأضعاف الجيش؛ بحيث أصبحت هذه الفصائل لا تلتزم بأوامر المرجعيات او السلطات السياسية او الأمنية وأصبحت الرئاسات الثلاث في موقف المتفرج لصولات وبطولات هذه الفصائل في مجال خروقاتها الأمنية وفي وضح النهار وفي أماكن تعد واقعة ضمن المربع الأمني للحكومة.
أن الرعب السياسي والأمني الذي تقوم به هذه الفصائل المسلحة هو السائد لإدارة دولة اسمها العراق، وبالتالي إبقاء المواطنين في حالة شعور دائم بأن فوقهم فصائل مسلحة ميليشياتية لا تمتثل الا لقادتها وتتحكم بمصائر المواطنين.
الا يستدعي ذلك يا رئيس الحكومة ان تقوم بصولتك أولا على تلك الفصائل بدل من الذهاب الى مدينة وفق العرف العسكري تعد ساقطة وخطورتها لا تشكل25% من خطورة تجوال مائة فصيل مسلح في ارجاء العاصمة بغداد وفيها سفارات الدول وشركاتها وجالية اجنبية ويحتاجون ان يرفلوا بمظاهر دولة تحمي مواطنيها وساكنيها ومؤسساتها والسفارات والمنشئات التي فيها.
الا يستدعي يا رئيس الحكومة منك ان تقوي الامن الداخلي ليكون وسيلة ناجعة في قطف ثمار نصر عسكري على داعش وغيرها؟
ان بعض قادة هذه الفصائل وتحت ذريعة وجود تنظيم داعش الارهابي شجّعهم على زيادة نفوذهم باعتبارهم قوة عسكرية غير رسمية، وأصبحوا مساهمين في ترغيب اخرين وترهيبهم، وباتوا محل سخط من المكونات الأخرى مما أربك الوضع الأمني والمشهد السياسي عموما.
وهناك استحالة قانونية وسياسية في التعايش بين فكرتين ومشروعين متناقضين، اي مشروع الدولة ومشروع الفصائل المسلحة، ولو استجلينا المقاصد لوجدنا المقاصد المتحققة مدمرة لبنية المجتمع ولا تخدم دولة القانون. ان وجود هذا الكم الهائل من الفصائل المسلحة يؤشر لأمرين:
الأول: ارباك وضع الدولة الطبيعية بكافة جوانبه.
الثاني: الانطلاق من شبه دولة تحتل لاحقا كل الدولة.
فعلى الدولة العراقية التحرك بكل جدية لتطهير العاصمة بغداد من هذه الفصائل المسلحة لأنها تنغص وتربك عيشة الدولة كراعية لمكوناتها الانسانية، وتنطلق من الحاجة الى وجود دولة عراقية مهتزة مهترئة هرمة.
ان هذه الفصائل المسلحة التي دق جرس انذارها السيد رئيس الحكومة باتت تغلق المناطق التي يسكنوها وتنظم امنها، وتحولها الى ثكنة عسكرية ممنوع على اجهزة الدولة دخولها، وتسرق حرية الناس وفي بعض الأحيان أموالهم، وتمتد خارج حدود الدويلة لتعتدي على هيبة الدولة متى استدعتُ الحاجة فعل ذلك، وهذه الفصائل لها مصالح اقتصادية عليا وكبرى؛ انشأتها بطرق غير شرعية؛ لتضمن استمرارية تواجدها وديمومتها.
ان تصرفات وممارسات هذه الفصائل المسلحة اصبحت حقائق، تهدد وجود الدولة العراقية، ناهيك عن عبثها الواضح بالسيادة وضربها بعرض الحائط مكونات اساسية من مكونات الدولة الطبيعية، وإذا لم تجابَه بصلابة وحكمة وروية؛ فان هناك خطرا يقول بانفراط عقد الدولة العراقية.
في دولة العراق، باتت هذه الفصائل المسلحة تتجاسر على القانون ولها سلطاتها الواسعة وإجراءاتها التي تتقاطع حتى مع كل القوانين الوطنية والدولية والاعراف السماوية والوضعية، وقد لاحظنا عدة ممارسات من خلال فيديوهات نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي تجسدت بالقصاص في الساحات العامة وميادين المعارك والشوارع، من افراد تحت اتهامات بانه داعشي؛ فمن اعطى هذه الصلاحية لهذه الفصائل الخارجة عن سيطرة الدولة ان تقوم بذلك وبدون أي استنكار او إجراءات قانونية بملاحقة المتورطين من الحكومة؟
ان سِلاح الفصائل المسلحة فوق القانون ووسيلة من وسائل الترهيب والرعب التي تمارس يوميا في العراق، وبات لكل منهم سجونا سرية، ولها سرايا تقوم بخطف الناس ومصادرة أموالهم وتعذيبهم، وأصبحت خطر داهم يهدد كيان الدولة العراقية.
كان على الدولة من باب التزامها بالقانون والدستور والمنطق والعرف والاخلاق والدين، ان تتفادى اي نشاط مخل بالأمن، قبل الذهاب لتحرير أي مدينة، كان على الدولة ان تقوم بنزع سلاح هذه الفصائل ومحاربتها، والعمل على تقوية شوكة الدولة، من خلال التصرف على اساس معادلة جديدة تُصادق على شرعية الحق العراقي؛ اي حق المواطنين العراقيين في وطن سيد لا وجود لأي سلاح غير ذي شرعية فيه، ان مسالة الإبقاء بالسلاح تحت ذريعة مقاتلة داعش، يعرض الهوية العراقية المسالمة للخطر.
ونختم مقالنا بقول من مدرسة علي بن أبي طالب(عليه السلام) سيد الرجولة والبلاغة، حينما قال:
" إذا وضعت أحدا فوق قدره، فتوقع منه أن يضعك دون قدرك"