انقلاب وزير الدفاع العراقي… محاولة للفهم
د. مثنى عبدالله
Aug 09, 2016
على وقع اهزوجة «علي وياك علي» استقبل بعض شباب حي الكاظمية في بغداد وزير الدفاع العراقي، الذي كان يتبختر في شوارعها لتفقد السيطرات الأمنية، وقد عاد لتوه من ساحة المعركة، بعد أن خاض منازلة كبرى في برلمان المنطقة الخضراء، حتى أن غبارها غطى سحنته وبذلته العسكرية. ففي العراق باتت معارك المصير في البرلمان، وليس في ساحات الدفاع عن أرضه وسمائه ومياهه، بعد أن فقدت كل هذه الأسماء معانيها، وباتت مجرد الفاظ تستخدم في الخطابات السياسية والدينية، ومُلكا للآخرين يدنسونها أنى شاءوا. أما ساحة البرلمان فهي السيرك الوحيد التي يتقاذف فيها ممثلو الشعب الشتائم وقناني الماء والفضائح والتهم ما صدق منها وما كذب، وكلما كان الخطيب مفوّها وقادرا على رد التهمة والشتيمة بألف مثلها، خرجنا إلى الشوارع هاتفين، علي وياك علي. تذكروا اننا هزجنا بها قبل مدة وجيزة للمتظاهرين الذين دخلوا قبة البرلمان واعتصموا فيها، ثم عاد الجميع أدراجهم واعتلى رئيس البرلمان منصته دون تغيير.
لم يحضر وزير الدفاع العراقي الاسبوع الماضي، إلى البرلمان بارادته كي يدلي بما لديه من أخبار الفساد، وكي يعلن أمام ممثلي الشعب المزيفين عن الضغوطات التي يتعرض لها كي يفسد، بل كان هناك قرار من قبل عدد من أعضاء البرلمان باستجوابه بتهم فساد، منها دخول أحد أبنائه على خط العقود والشركات، واستخدام الوزير مروحيات الجيش للذهاب والعودة إلى بيته، واستغلال المنصب لغرض الإثراء غير المشروع. هذا الذي سمعناه من الطرف الذي طلب استجواب الوزير نقلا مباشرا من جلسة البرلمان على الفضائيات المحلية، لكن الرجل أمسك بطرف خيط السنارة التي كانت تحاول اصطياده، ورماها تجاه رئيس البرلمان وأعضاء آخرين محاولا اصطيادهم، وغالبيتهم من الكتلة التي رشحته للمنصب. أي الكتلة التي هو محسوب عليها طائفيا وليس وطنيا. وقال الوزير في ادعاءاته أنه طُلب منه أن يرفع سعر عقد سيارات همر عسكرية من 60 مليون دولار، سعرها في الشركة، إلى 340 مليون دولار، كي يذهب فرق السعر لتغطية العمل السياسي للكتلة التي منها رئيس البرلمان، كما طُلبت منه الكتلة نفسها ان يحيل عقد اطعام الجيش على شركات عائدة لأشقاء وأقرباء أعضاء الكتلة، ثم يبين كيف أن أعضاء في البرلمان يطلبون منه تغطية نفقات سفرهم وسفر رئيس البرلمان، في الإجازات الاعتيادية التي يقضونها لغرض الراحة والاستجمام في دول عربية وغير عربية. كانت الإدعاءات التي رماها الوزير ضد حلفائه من العيار الثقيل، لكن من الاجحاف تصنيفها كما قال البعض بأنها مفاجأة أو فضيحة. انها ليست هذه ولا تلك. الفضيحة عندما يسقط أحدهم في عمل فاضح في وسط شريف. وهذه لا تنطبق على ما يجري في العراق منذ العام 2003 وحتى اليوم. فالبلد يحتل المرتبة 161 على مؤشر «منظمة الشفافية الدولية للفساد» كما حدث مثلها وأكثر ومدعومة بالوثائق والشهود، لكن المفسدين كانوا أما يُهربّهم الأمريكان إلى خارج العراق، أو تُهربهم أحزابهم وتجعل منهم خزانة مالية في بلد آخر لدفع نفقات سفر الأمين العام للحزب وعائلته وأعضاء الحزب أيضا. مثال ذلك تهريب القوات الأمريكية لوزير الكهرباء الأسبق من المعتقل في المنطقة الخضراء، وتهريب حزب الدعوة وزير التجارة إلى لندن، الذي رغم صدور قرار غيابي بحقه لكن الحكومة لم تطلب من السلطات البريطانية تسليمه حتى اليوم، لكنها بارعة في ابتزاز دول عربية كي يسلموا المعارضين للحكم. أذن ليست هنالك أي مفاجأة في الموضوع ولا يقترب من حالة الفضيحة اطلاقا، لان النظام السياسي قائم على الفساد أصلا بعد أن شرعن المحاصصة، وجعل الطاقم الوزاري في عُهدة الكتل والأحزاب السياسية ترشيحا وإقالة، وبالتالي بات الوزير ووزارته مصدر تمويل للحزب والكتلة، والمال السياسي اليوم في العراق هو من يجلب الأتباع والأنصار والميليشيات.
أن كل من يُقتل في العراق سبب مقتله هو الفساد، وكل من لا يحصل على قوت يومه ويضطر لجمعه من القمامة سببه الفساد، وأن ملايين النازحين إلى المخيمات، وسيطرة الميليشيات السنية والشيعية على أرض ومقدرات الناس سببه الفساد أيضا، وأن غالبية التفجيرات التي تحصل يوميا في العراق، سببها إغلاق العيون التي يجب أن تكون ساهرة بدولارات الفساد، كما ان كل الاغتيالات التي تجري سببها توصّل المقتول إلى قضية فساد، أو اختلاف على صفقة فساد، إلى الحد الذي سمعنا من أطراف في السلطة تتحدث عن أن القضاء بات يُراد له قضاء، وأن هيئة النزاهة يُراد لها هيئة نزاهة تبحث في نزاهتها. واليوم وبعد ادعاءات وزير الدفاع، انطلقت الكثير من التصريحات تطالب بحل البرلمان ورفع الحصانة عن كل من وردت أسماؤهم، لكن ما فائدة ذلك كله أن كان الوسط والبرنامج السياسي يعتمدان الفساد قانونا في عملهما، ويعتمدان المُفسد زعيما سياسيا؟ وما جدوى محاربة الفساد بوسائل الفساد نفسه، الذي تغوّل وبات له دولة وبرلمان وجيش ومؤسسات؟
نعم كانت إدعاءات وزير الدفاع والطرف الذي كان يقابله تمس كل الدولة من الباب حتى المحراب، صفقات تسليح فاسدة، وابتزاز مالي بمقدار 2 مليون دولار لسحب الاستجواب، ونقل وتنسيب وترفيع ضباط وقادة، وتزوير عقارات عامة وخاصة. لكن لم سكت هذا الفارس عن كل هذه الأفعال منذ زمن؟ وفي المقابل ما الذي جعل رئيس البرلمان يستعجل في تصريحه وهو رجل قانون ليصف الذي حدث بأنه مسرحية، وهو الوصف نفسه الذي قاله بحق المعتصمين في البرلمان الذين طالبوا بخلعه؟
أن كل الذي جرى في جلسة الاستجواب، وإنقلاب وزير الدفاع السُني على سُنة العملية السياسية، كان وفق صراعات وحسابات سياسية لا دخل لها لا من بعيد ولا من قريب بموضوعة الشرف والنزاهة والعفة والحرص على المال العام. لقد أفرغ التحالف الشيعي منصب وزير الدفاع من جوهره ولم يعد سوى هيكل بصلاحيات محدودة، لكن بقي شخص من يشغله أحد وسائل الابتزاز ضد حاضنته. أيقن الوزير أن جلوسه للاستجواب في البرلمان يعني فقدانه المنصب، فحاضنته السُنية من أعضاء البرلمان يريدون منه الدعم بالأموال ولا يقدمون له الدعم ضد الاستجواب ويرفضون مثوله، والطرف الآخر لا يعني لهم شيئا ومن مصلحتهم اسقاطه بتوجيه تهم الفساد إليه في ساحة البرلمان، مناكفة للطرف الآخر كي يظهروا أنهم أكثر نزاهة. قرأ الوزير الموقف جيدا فقرر فضح حاضنته تقرُبا للطرف الأقوى في السلطة والبرلمان، وهو المسار نفسه الذي سلكه وزراء الدفاع السابقين من كتلة سُنة العملية السياسية، وانتهت الفعالية بشهادة شاهد من الطائفة نفسها، فبات الأخير فارسا نهتف له «علي وياك علي».
أتذكر جيدا عندما كنا في بريطانيا قبل خمسة أعوام، كان لنا زملاء نظهر معا على الفضائيات للحديث عن المشهد العراقي، فكان التمجيد والثناء والاحتفاء والدعوات إلى المؤتمرات في خارج بريطانيا، تأتي فقط لمن يشتم طائفته أكثر ويتودد للأخرى، ليس حبا بشخصه بل لانه يمثل خرقا ونصرا لهذا التجمع الطائفي ضد التجمع الطائفي الآخر. هذا السلوك نفسه يتم العمل به في المشهد السياسي العراقي. صحيح أن رئيس البرلمان أتى إلى المنصب بصفقة وحلف حصل بين حزب الدعوة والحزب الإسلامي العراقي، لكن ما الذي يمنع القيام بعملية تأنيب أو تأديب سياسي للحلفاء بيد الطائفة نفسها، والاحتفاء بمن يقوم بهذا العمل على أنه بطل؟
وحدهم الناجون من سيناريوهات التأديب الحقيقية والمفتعلة، الحافظـــون كراماتــهم بحفظ كرامة الوطن، هم الذين وضعوا سدا من نار بينهم وبين العملية السياسية.
٭ باحث سياسي عربي