بغداد «العراق الجديد» تحرق أطفالها
هيفاء زنكنة
Aug 16, 2016
لا ادري لم يرتبط وجود الاطفال في ذهني بالكتب. هل هو الأمل بالتواصل الحياتي والمعرفي أم هو الخوف من القطيعة الانسانية حين تحرق الكتب ويقتل الاطفال؟ هل هذا ما عناه الشاعر الالماني هاينرش هاينه حين قال « من يبدأ بحرق الكتب ، ينتهي بقتل الانسان»؟ ومنشأ الانسان هو الطفل. الهذا نركز ، حين نكتب عن الحوادث المفجعة التي تصيب بلدا ما، على سردية تأثير الفاجعة على الاطفال اكثر من غيرهم؟
وقعت واحدة من الحوادث الكارثية التي يعيشها أطفال العراق الجديد، ليلة التاسع من الشهر الحالي ، حين اندلعت النيران في وحدة الولادة والامراض النسائية، في مستشفى اليرموك، غربي بغداد. كانت النتيجة حرق 12 طفلا ، كانوا موجودين في وحدة الرعاية الخاصة. وأصيب 19 طفلا وأمرأة بالحروق والاختناق بسبب الدخان الذي استنشقوه.
لم تتعرف أمهات الاطفال، اللواتي ظنن انهن تركن اطفالهن في مكان أمين وبعهدة افضل من يتولى رعاية الاطفال، على الرفات المتفحمة التي سلمت اليهن. بدلا من مفردات الطفولة والبراءة والأمل وفرحة استلام الوليد ، بعد تعافيه، تكررت مفردتا الفحم ولماذا على شفاه الامهات النائحات والآباء، وهم يمدون ايديهم لاستلام علب كارتونية، قيل لهم انها بقايا ابنائهم. لماذا يموت الاطفال حرقا في مستشفى رئيسي في بغداد، يتضمن ، كما يشاع، وحدة للطوارئ ومنشآت تعليمية ؟
تشير شهادات الاطباء والممرضين والاهالي بالاضافة إلى الصور التي التقطت بعد الكارثة مباشرة، إلى تغلغل الفساد المالي والاداري وما يصاحبهما من انحطاط اخلاقي، في كل مفاصل النظام من اعلاه إلى اسفله، ومستشفى اليرموك (دعونا ننسى وزارتي الدفاع والنفط)، باعتبارها المكان الذي يجب ان يتميز بأعلى القيم النبيلة، هي النموذج الافضل.
فلو افترضنا ان الحريق نتج عن تماس كهربائي، حسب تصريح المسؤولين، أو حتى عمدا اجراميا كما يشاع، فأين كان الممرضون الخفر ووسائل اطفاء النار العادية كي يتم انقاذ الاطفال فورا؟ لماذا تم قفل الابواب على ردهة الاطفال وتركهم بدون رقابة، ولم يتمكن احد من ايجاد المفاتيح لفتحها فتحولت إلى فرن وقوده الاطفال؟ لماذا لم تصل سيارات اطفاء الحريق الا بعد ساعات؟ لماذا لا توجد مخارج للطوارئ في مستشفى بهذا الحجم والاهمية؟ لماذا يفتقر المستشفى إلى وسائل مكافحة الحريق وهو في عاصمة بلد يعتبر من أغنى دول المنطقة ؟ ما هي تكلفة وسائل مكافحة الحرائق وتنظيف المستشفى من الصراصر وهي تخرج زاحفة من بين البلاط المتكسر، والحاويات الملأى بالازبال، والمراحيض القذرة، كما أظهرت الصور الملتقطة بعد الحريق؟ ألم يكن بامكان السراق – ساسة النظام التخلي عن نسبة ضئيلة من مليارات الدولارات التي نهبوها ، في السنوات الاخيرة؟ هل خطر في بال أحدهم ، ومعظمهم يرتدي عمامة الدين ويسترشد بالفتاوى ، تكريس نسبة مما يجمعونه من الخمس والزكاة لأدامة المستشفيات ؟
في غياب استحالة معرفة الحقيقة، وعدم الثقة بممارسات النظام ولجانه التحقيقية المشهورة بانها لا تحقق، وفي ظل غياب القضاء النزيه ، تنفتح الابواب ، على سعتها، امام تفسيرات المواطنين المجسدة لمخاوفهم أو المبنية على ما يعرفونه من خفايا ولا يمتلكون القدرة على اثباتها بالدلائل القانونية. من بين التحليلات التي صاحبت انتشار خبر الفاجعة على مواقع التواصل الاجتماعي ، تصريح احدى امهات الاطفال المحروقين بأن ادارة المستشفى باعت الاطفال وما تسلمه اهل الضحايا هو اسفنج محروق. في موقع آخر، كتب احد المواطنين ما يبدو اكثر واقعية لشدة ارتباطه بالفساد: « الحاضر يخبر الغايب وخصوصا آباء الأطفال الخدج الذين احترقوا ظلما والسبب ليس كما يقول (…) من وزارة الصحة انه ناجم عن تماس كهربائي، فهذا كذب، والله كذب، فقد وصلتني معلومات من داخل المستشفى ومستعدين للإدلاء بشهادتهم وإليكم التفاصيل: قبل فترة قليلة وصلت إلى مستشفى اليرموك أجهزة طبية حديثة، فقام بعض الأطباء والمسؤولين بسرقتها من المخازن الخاصة بها في المستشفى، ثم قام هؤلاء المجرمون بإشعال حريق مفتعل لغرض إخفاء جريمة السرقة، حيث سيتم تقييد الأجهزة المسروقة ضمن خسائر الحريق، لكن النيران امتدت إلى أبعد مما كانوا يخططون فاصابت قسم الأطفال الخدج واحترق منهم من احترق وتم إنقاذ الباقين.. وأخيرا على آباء الأطفال، إذا أرادوا فتح تحقيق، فهناك من كادر المستشفى من يعرف الحقيقة، ويريد فضح هؤلاء المجرمين. اللهم إني بلغت وهذه المعلومات حصلت عليها شخصيا من المقربين داخل المستشفى، وإنا لله وانا اليه راجعون».
هل هذه هي الحقيقة؟ لا ندري. ما نعرفه جيدا هو ان جريمة حرق الاطفال ستمر بلا مساءلة وعقاب، كما مئات الجرائم التي سبقتها ، من بينها تفجير وحريق الكرادة الذي راح ضحيته المئات. حيث يكتفي الساسة بنشر خبر عن مطالبتهم (يطالبون من؟) بمحاسبة المقصرين بالحادث وانزال أقصى العقوبات بحقهم. وهذا هو أقصى ما يحصل عليه المواطن، في كل مرة يتعرض فيها إلى فاجعة جديدة، فالنظام منخور بالفساد، والطائفية، والاقتتال حماية للمصالح الشخصية. والاكثر من ذلك، يبدو التساؤل غير المنطقي منطقيا فلم يهتم ساسة النظام بالمستشفيات وتوفير الرعاية الصحية والتعليم واطفالهم وعوائلهم لا يعيشون اساسا في العراق بل ينعمون بافضل الخدمات خارج البلد ، ويبذرون أموال البلد المنهوبة، بطرق مثيرة للتقزز ؟
مع كارثتي حرق الاطفال في مستشفى اليرموك وحرق الشباب في مجمع الكرادة للتسوق ، في بغداد ايضا، لم يعد الموت مرتبطا بتفجير سيارة في سوق، أو انتحاري في جامع او حسينية، أو قصف حكومي بالبراميل المتفجرة. صار للموت وجه جديد، يحصد من خلاله الحياة بشكل جماعي. ضحايا الكرادة حوصروا في مجمع بلا مخارج احتياطية للانقاذ، واحترق الاطفال في مستشفى اليرموك لأن آلة اطفاء الحرائق كانت عاطلة. هل هو عقم النظام، عقم رجاله ونسائه سوية؟ عجزهم المفضوح عن ان يتمكنوا ذات يوم من انجاب الحياة؟ أم انها رغبتهم بالانتقام من بلد لا يشعرون بالانتماء اليه؟
٭ كاتبة من العراق