فيلم "لومومبا" لراؤول بيك:
مهند النابلسي
صورة "أفريقية" شاملة لمأساة استعمارية "شكسبيرية"!
في السابع عشر من شهر كانون الثاني لعام 1961، قام قاتلان مأجوران ثملان بتقطيع أوصال باتريس لومومبا ببرود اجرامي عتيد، ولومومبا هذا هو أول رئيس وزراء لدولة الكونغو كينشاسا الفتية (والتي عرفت لاحقا باسم زائير، وتسمى اليوم "جمهورية الكونغو الديمقراطية)، وقد استقلت عن الدولة الاستعمارية الصغيرة بلجيكا بعد حوالي قرن كامل من الاستعمار الاستحواذي المزمن...ولم يكتفي القاتلان المجرمان بتقطيع الأوصال، وامعانا باخفاء تفاصيل ومعالم الجريمة المروعة، فقد قاما بتذويب الجثة والأوصال بالأسيد!
بهذه الأحداث الاستفزازية يستهل المخرج الهاييتي راؤول بيك فيلمه "السياسي" اللافت هذا (2001)، ويبدو لنا متعاطفا تماما مع ذلك الزعيم الثوري الرومانسي التاريخي، الذي سجلت حادثة مقتله الاجرامية سابقة فريدة بالاغتيال السياسي العصري للقرن الفائت، والتي ظهر فيها تورط دولي سافر شمل أمريكا وبلجيكا وحتى منظمة "الامم المتحدة" ذاتها، المطلوب منها حماية استقلال الدول الفتية ودعم الزعماء الجدد!
ويبدو المخرج مهووسا ومنجذبا بحادثة الاغتيال الشهيرة، كما يبدو متأثرا بكاريزما الزعيم الأفريقي الشاب الذي لم يتعدى الخامسة والثلاثين من عمره حين اغتياله، فبعد فيلمه الوثائقي اللافت "لومومبا: موت نبي" الذي أخرجه بالعام 1991، يعود راؤول بيك الى شاشة الفن السابع بفيلم سياسي تراجيدي معبر، وقد اختار لبطولته ممثلين موهوبين مثل ايريك ايبواني بدور لومومبا، وباسكال نزونزي بدور تشومبي زعيم المتمردين بمقاطعة كاتانغا، الذي اشتهر بوحشيته الدموية...برع المخرج بيك باظهار مصداقية عالية وشفافية فريدة بتقديم صورة شاملة متداخلة للأحداث المعقدة والمجازر المرعبة، تلك التي مهدت الطريق في النهاية لوصول واستيلاء الرقيب جوزيف موبوتو للسلطة، والذي غير اسمه ليصبح "موبوتو سيسي سيكو"، وقد تقمص دوره ببراعة الممثل "أليس ديسكاس".
يبأ الفيلم بخطاب موبوتو بالذكرى الثانية لاستقلال بلاده، ثم يسأل عن لحظة صمت بذكرى "لومومبا"، وعندما تبدأ هذه اللحظات ينقلنا المخرج ببراعة لنرى مشاهد متتابعة لعمليات مروعة من "الاعدام والدفن والنبش والتمزيق وحرق بقايا الجثة"، ثم تنتهي لحظات الصمت فيعود هذا "المتآمر الخبيث" لخطاب العرش وكأن شيئا لم يكن، علما بأن جوزيف موبوتو هذا هو ديكتاتور ومتآمر وقاتل ولص، وقد استمر بحكم الكونغو لأربعة عقود بعد مقتل لومومبا ... تسترجع هذه الدراما التاريخية المعبرة بدايات لومومبا الشاب كبائع للبيرا، حيث تظهر لنا مهاراته بالقيادة والبيع والتفاوض، كما نلاحظ أن البيرا التي يسوفها يملكها "جوزيف كاسا فابو"، وهو نفسه الذي أصبح لاحقا رئيسا للكونغو فيما سمي لومومبا رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع، كما يجب ان لا ننسى الشهرة العالمية الكبيرة التي تتمتع بها بلجيكا "الاستعمارية" بمجال صناعة البيرا بماركاتها العالمية المشهورة...ثم يظهر الشريط أن "كاسا فابو" هذا قد أمر باعتقال لومومبا بالخمسينات، عندما أصبح هذا الأخير زعيما لما يسمى "حركة الكونغو الفومية"، حيث لاحظ البلجيكيون المستعمرون بقلق حس القيادة الكاريزمي الذي يتمتع به لومومبا من بداياته الكفاحية، وبالرغم من قيامهم بحبسة وضربه، الا أنهم يرضخون للأمر الواقع ويسمحون له بالسفر لبروكسيل لبحث "امكانية استقلال الكونغو"...وعندما يعود ويسعى بالبدايات لاستبدال أحد الضباط البيض اللذين أشرفوا على اعتقاله وتعذيبه، يتم عندئذ استهدافه من قبل عملاء المخابرات الأمريكية والبلجيكيين والمستوطنين البيض المتنفذين، حيث يتم تصنيفه كشخص قيادي خطير يجب التخلص منه!
يقول المثل الجنائي الشهير "فتش عن المستفيد"، وتعود القصة لمقاطعة كاتنغا الانفصالية الغنية بالثروات المعدنية الفريدة، والتي يدبر الغرب استقلالها المبكر عن الكونغو، حيث يسعى الزعيم الوطني لومومبا لاستعادتها ومقاومة الانقلابيين العملاء، عندئذ تجهز له كالعادة تهمة "الشيوعية" كونه طلب دعم ومساعدة الروس!
لعب الممثل الفرنسي (الكاميروني الأصل) ايريك ايبواني دورا مؤثرا كزعيم كاريزمي متحمس وخطابي بارع، يفتقد لمهارات الديبلوماسية والرؤيا الاستراتيجية، كما يفتقد للخبث والدهاء، وتقمص بعبقرية دور الزعيم التاريخي الشاب لومومبا، وربما تفوق على "ديزيل واشنطن" بدور الزعيم الأمريكي الأسود "مالكولم اكس".
نجح المخرج دون تبجح واستعراض "واثارة ميلودرامية" بوضع فيلم تشويق سياسي مؤثر يختزل الوضع السياسي لبلد أفريقي فتي، وكأنه يسجل مأساة شكسبيرية مكررة لدول القارة الأفريقية المنكوبة بالفقر والمجاعات والفساد والانقلابات العسكرية والغنية بالخامات والثروات المعدنية النادرة، وكان واضحا باظهاره الصريح "الفاضح" لدور الدول الاستعمارية "القديمة والحديثة"، حيث بدا ويبدو أن معظم الدول الأفريقية لا تستطيع أن تتخلص ببساطة من هذا الارث الاستعماري البشع الثقيل، حتى من بعد مرور العقود على استقلالها، كما نلاحظ أن الدول الاستعمارية "ذاتها" قد عادت لممارساتها "التآمرية-البشعة" بوجه جديد خفي قبيح وبدعم "الامم المتحدة" كما لاحظنا "كأمثلة على ذلك" دعم انفصال "جنوب السودان" وبعملية الاطاحة بمعمر القذافي ودفع ليبيا نحو الفوضى "اللاخلاقة" لاستغلال وسرقة الثروات النفطية والمعدنية!