طريق الحرير الاقتصادي وتحديات البناء في الصين
مثنى عبدالله
Sep 27, 2016
لقد وجدت الصين معادلة الحضارة القديمة العريقة، مع ضرورات التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، ومتطلبات العالم المتطور المعاصر، وإعادة تشكيل وصيغة ما يتطلب التغيير. كما وجدت صيغة جديدة بين الدين ونموذج التنمية الاقتصادية.
كل ذلك كانت غايته هو الوصول إلى مرتبة الدولة الاولى في العالم. صحيح أنهم في السياسة ينتهجون طريقة القرد الصيني، الذي يقف على التلة يراقب ولا يتدخل، ولا يهتم بالاوضاع والنزاعات الدولية في العالم، لأنهم غير جاهزين لذلك تماما بانتظار تجميع قواهم كي تتحول الصين إلى التنين القاهر، لكنهم يعتنقون اليوم استراتيجيتين مهمتين في المجال الاقتصادي، هما عقيدة السور العظيم وطريق الحرير. العقيدة الاولى تقوم على عدم السماح لأحد بالدخول إليها عبر السور، سوى الضيوف الذين يمكن الاستفادة منهم في المجال الاقتصادي، أما غيرهم فلا. والعقيدة الثانية تقوم على فلسفة التحرك على كل العالم، وبيع ما لديها والاستحواذ على زبائن جدد، في الوقت نفسه الذي تجلب ما يروق لها من تكنولوجيا بالطرق الشرعية أو بالقرصنة، لذلك هي اكتسحت العالم ببضائعها، واستقطبت الاستثمارات التي رأتها نافعة، لكنها لم تسمح لحد الآن بدخول النظم الليبرالية المالية. وإذا كنا ننظر إلى النمو الصيني على أنه مفخرة يجب الاقتداء بها، فإنه لا أحد يدرك ما ينتجه هذا النمو من مشاكل. فالصين تواجه تحديات داخلية هيكلية، ويتعلق ذلك بأنها لحد الان عبارة عن دولة حزب لينيني، لديها سمات هيكلية وديناميكية محددة لم تتغير حتى اليوم، رغم التغيرات التي حصلت فيها. كما أن تواصل النمو غير مضمون، لأن وضعهم يشبه ما حصل في اليابان، وأن النمو هنا يمكن أن يتباطئ، إذا لم يخفضوا من جموحهم الاقتصادي ويحرروا نظامهم السياسي. لكن المشكلة الكبرى التي يعرفونها جيدا، هو أن تحرير نظامهم السياسي قد يعني انفصال القسم الغربي من البلاد.
وتبرز تأثيرات الصين الاقتصادية على العالم كله، على الرغم من أنها تصنف كدولة من دول الجنوب، الا أن اقتصادها هو الثاني على مستوى العالم، إلى الحد الذي دفع الكثير من الخبراء الاقتصاديين للترجيح، بأن أحد الأسباب الرئيسية في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي هو تراجع معدلات النمو الصيني، بل ذهب البعض من حكومات الدول الغربية، إلى التحذير من سطوة الاقتصاد الصيني على قطاعات مهمة واسعة ذات أبعاد استراتيجية. فقد استقال وزير الدولة البريطاني للتجارة، جيم أونيل، على خلفية تضارب وجهات النظر مع رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، حول العلاقة مع الصين، بسبب إعلانها تأجيل بناء محطة نووية في هينكلي بوينت، وكان الهدف من التأجيل هو تبديد المخاوف من اجتياح الصين لهذا القطاع في المملكة المتحدة. كما سعت الولايات المتحدة جاهدة للتنسيق مع الدول الواقعة في جنوب شرق أسيا، لوضع الكوابح في عجلة الاقتصاد الصيني والحد من تقدمها، من خلال أثارة هواجس هذه الدول بشأن التحركات الصينية في بحرها الجنوبي، لكن الصين من جانبها تسعى إلى احتواء هذه التحركات وإزالة الهواجس، من خلال السعي الدائم لتوسيع التعاون الاقتصادي والاستثمار في هذه الدول. كما أنها تتطلع للتنمية من خلال تعزيز العلاقات التجارية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. ولعل من أهم مشاريعها الاقتصادية التي طرحتها على العالم كله، هو الدعوة إلى تحويل التصنيع والانتاج العسكري إلى إنتاج مدني، لاعتقادها بأن هذا التوجه يخدم البشرية ويحقق العدالة الاجتماعية، وقد أطلقت على هذا المشروع تسمية اقتصاد السلام، لكن الكثير من الدول الغربية تعارض هذا التوجه، لاعتقادها بأن الصين تخفي تحت هذا المشروع توجها للسيطرة الاقتصادية على العالم. كذلك فإنها استضافت قمة مجموعة العشرين في سبتمبر الماضي، وسط توقعات عالمية بأن تقوم برسم خريطة لتحقيق التنمية المستدامة، وانتشال الاقتصاد العالمي من مأزق النمو المنخفض، حيث وعد الرئيس الصيني العالم بذلك في عام 2014. وقد قدمت مؤخرا مشروع التنمية الابتكارية والاصلاح الهيكيلي للاقتصاد العالمي، كما أنها تسعى وبقوة إلى معالجة سلبيات العولمة، لكن ذلك لا يأتي تبرعا عفويا منها، بل هدفا محسوبا تسعى من خلاله إلى الحد من تأثيرات الاقتصادات العالمية عليها، خاصة أنها تنظر بعين الاهتمام الكبير إلى رفع مستوى دخل مواطنيها، من خلال دفع معدلات التصدير إلى أعلى المستويات.
لقد ساهم الانتاج الفلاحي الصيني وتنوعه بإعطاء القوة الاقتصادية لهذه الدولة، وقفز بها إلى المراتب الاولى عالميا، إضافة إلى العوامل الطبيعية خاصة جغرافيتها المتنوعة التضاريس. كما كان للعنصر البشري، باعتبارها أكبر تجمع سكاني في العالم، دور كبير في توفير موارد بشرية كافية تتولى تحقيق التنمية. وساهمت العوامل التقنية في تطور الاقتصاد الصيني، حيث انتقل وبنجاح كبير من مرحلة الاقتصاد الاشتراكي إلى مرحلة الانفتاح على اقتصاد السوق، من دون آثار سلبية كبرى. وسبق أن توقع البنك الدولي تجاوز الصين أمريكا أقتصاديا ابتداء من عام 2020 حتى عام 2030، لكن صندوق النقد الدولي أعلن عن تعديل هذه التوقعات وأشار إلى أنه يمكن أن يتحقق ذلك في العام الجاري. لكن كل ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال عدم وجود تحديات حقيقية تواجه الاقتصاد الصيني. فتعداد النفوس الكبير جدا يؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على الاقتصاد، وقد حاولت القيادة الصينية التغلب على هذا التحدي بتحديد النسل لمواطنيها، لكن ذلك أدى إلى زيادة نسبة الشيخوخه في البلاد وحدوث قصور كبير في اليد العاملة. وعلى الرغم من الوضع الصحي الجيد لاقتصاد هذه البلاد، لكن التفاوت الاقتصادي ما زال كبيرا بين مواطنيها ومعدلات الفقر لا زالت عالية خاصة في البوادي. كما أن معاناة الاقتصاد الصيني لا زالت كبيرة في موضوع المواد الاولية للطاقة، الذي أجبرها على ربط اقتصادها بالخارج من خلال توقيعها العديد من عقود التزود بالطاقة، وبالتالي سحب منها ورقة الاستقلال الاقتصادي. ورغم النمو الاقتصادي الكبير الا أن التنمية البشرية في مستويات متدنية نسبيا، لكن التوقعات تشير إلى النمو الاقتصادي لديها لابد أن تؤول نتائجه إلى تحسن كبير في مداخيل الاسر الصينية وتراجع معدلات الفقر فيها.
لقد أثمرت الاستراتيجية الاقتصادية الصينية في وضعها بموضع أكبر المؤثرين على الاقتصاد الامريكي، فنشرة وزارة الخزانة الامريكية الصادرة في مايو الماضي أعلنت أن أكبر حاملي السندات الامريكية في الخارج هي الصين، محتلة المركز الاول باستثمارات مقدارها 1.244 تريليون دولار في الديون الامريكية، مما جعلها أحد أكبر المتحكمين في الاقتصاد العالمي.
باحث سياسي عراقي