عروبة العراق بين التتريك والتفريس في معركة الموصل
د. مثنى عبدالله
Oct 11, 2016
ما الذي جعل الوطيس حاميا بين دول الجوار غير العربي حول معركة الموصل المقبلة، إلى الحد الذي بات فيه الصوت التركي والإيراني أعلى بكثير من صوت الحكومة العراقية، بل حتى من صوت المحيط العربي؟ سؤال جدير بالبحث والتمحيص والتقدير والدراسة.
يقينا ليس من بين هاتين الدولتين من يمارس دور المنظمات الإنسانية، ويقدم خدماته خالصة جلية لوجه العراق والعراقيين من دون ثمن. كما لا يمكن أن يكون من هو على رأس السلطة السياسية في هذين البلدين، من هو ساذج إلى الحد الذي يقدم جنوده وأمواله مجانا للدفاع عن الموصل، بل نزيد على ذلك أن جهازي المخابرات في تركيا وإيران يعرفان جيدا من أين تؤكل الكتف، وكيف تمكنا خلال الثلاث عشرة سنة الماضية من بناء محطات استخبارية في العراق، تحت غطاء منظمات إنسانية وشركات ومنظمات مجتمع مدني وميليشيات وأحزاب، تعمل ليل نهار لتحقيق مصالح هاتين الدولتين في العراق، بعد أن غابت الدولة وأجهزتها تماما عن المشهد، وتركت الساحة تتصارع فيها المصالح الأجنبية وتأكل من جرف الشعب العراقي.
الجميع يريدون أن يساهموا في معركة الموصل ليس حبا بأهلها ولا بالعراق ولا حتى بالإنسانية، بل يريدون أن يستخدموها منصة يرفعون بها مصالحهم وضغوطاتهم على هذا البلد. كما أن هذا التدافع نحو المشاركة ليس كرها بتنظيم «الدولة» أيضا، فبعضهم جنى من وراء سيطرة التنظيم على الموصل وغير الموصل، الكثير من المكاسب والمصالح على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي. إنهم يتمنون أن يبقى التنظيم مسيطرا على هذه الاراضي لأن تجارة الرعب باتت رائجة، وباسم مكافحة التنظيم والوقاية منه نشأ سوق هائل للخدمات والتقنيات، تنشط فيه شركات تركية وإيرانية حكومية وخاصة، لتوفير الحماية الخاصة للمسؤولين والاستشارات الامنية والعسكرية، حتى أصبح هذا المجال قطاعا مهما من اقتصاد هذين البلدين وغيرهما كذلك. كما تم توظيف العديد من المرتزقة وتحويلهم إلى بورصة دولية تدر على هذه البلدان موارد هائلة، حيث باتت ظاهرة وجود تنظيم «الدولة» في العراق ظاهرة اقتصادية سياسية.
لقد تم استخدام عمليات تنظيم «الدولة» من قبل الاتراك والايرانيين كأدوات تأثير وتحكم في المجتمع العراقي، بغية توجيه الجمهور العراقي وفق ما يريدون، وتأمين تواجد جيوسياسي لهم في العراق لمواجهة بعضهم الاخر ولمواجهة الاخرين. لقد أغرت إيران العراقيين الشيعة بأنها نصيرهم وحليفهم الذي يقاتل بالنيابة عنهم ضد تنظيم «الدولة»، واندفعت تحت هذا الستار لإنشاء ميليشيات دربتها وسلحتها ووضعتها في أعلى سلم السلطة والجيش، وأعطتها أدوارا بارزة في التصدي، وبات قرارها هو القرار الاول في الدولة، إلى الحد الذي لم يعد أمام أي مسؤول عراقي أن يتجاوز هذه الميليشيات. بينما يعرف الجميع كيف دمرت إيران مدن الجنوب العراقي، طوال حرب السنوات الثماني بالقصف المدفعي والصاروخي.
كما أغرى الخطاب التركي المناكف للدور الايراني البعض من العراقيين، فظنوا أن تركيا هي الحامي لهم والمدافع الامين عن وجودهم ومصالحهم السياسية والمدنية، فراحوا يحجون إليها ويدافعون عن مصالحها في العراق أكثر من دفاعهم عن بلدهم وأهلهم، متناسين كيف أن الاتراك قطعوا مياه نهر الفرات عن مزارعهم ومواشيهم في ثمانينيات القرن المنصرم. وإذا كانوا سنة العملية السياسية اليوم فرحين بالموقف التركي ويعتبرونه ظهرا يحميهم من شيعة العملية السياسية، وإذا كانوا شيعة العملية السياسية يعتبرون الموقف الايراني سندا لهم ضد سنة العملية السياسية، فإن عروبة العراق هي الخاسر الاكبر في هذه المعادلة، وأن شعبنا الذي هو خارج هذه الحسابات هو الوحيد الذي يدفع ثمن التواجد التركي والايراني على أراضيه. فتركيا وإيران سيان في الحسابات العراقية الوطنية، فإذا كانت تركيا متواجدة اليوم على الاراضي العراقية بقوات عسكرية علنية، فإن إيران متواجدة قبلها بسنوات بقوى ناعمة وميليشيات، وبحرس ثوري لا ينتظمون في تشكيلات عسكرية نظامية. إذن نحن أمام دور واحد ولعبة سياسية إقليمية ودولية على أراض عراقية، ليس فيها أحد أحسن من الآخر في الاساليب والاهداف والنوايا.
يقول الرئيس التركي إنه لن يسمح بتهجير السنة العرب والتركمان، وأن من يبقى في الموصل بعد التحرير هم السنة العرب والسنة الاكراد والسنة التركمان. أين هي الدولة العراقية التي ننتمي اليها ونحمل هويتها إذن؟ هو ينظر إلى هؤلاء على أساس طائفي وليس على أساس هويتهم العراقية، التي تتقدم على أي هوية أخرى. يقينا أنه يرفض أن ننظر إلى شعبه على أنهم سنة وعلويين وغيرهم من الطوائف والإثنيات. وإذا كان هو يعتبر نفسه الممثل الشرعي والوحيد للسنة، إذن لماذا لم يتدخل لصالح سنة حلب السورية، التي هي أقرب إلى حدود بلاده من الموصل؟ ومن الذي أوكل له مهمة الدفاع عن السنة في العراق؟ أم أن الرجل يسير على خطى خامنئي بحثا عن دور المرجع الأعلى للسنة، كما الاخير الذي يعتبر نفسه مرجعا أعلى للشيعة؟ إن ما قاله الرئيس التركي يسير بموازاة ما قاله الزعماء الايرانيين طوال سنوات عديدة، من أنهم الممثل الشرعي والوحيد للشيعة، وأن بغداد هي عاصمة أمبراطوريتهم. إنه دور تركي يساوي في المحصلة دور إيران، التي ما خرج شيعي في الوطن العربي صارخا بحق أو باطل، إلا وأرسلوا له حرسهم الثوري وحركوا ميليشياتهم سرا كي تعبث في بلده وتنشر الخراب والدمار فيه بحجة نصرة الشيعة.
قد يختلف الكثيرون معنا في هذه النظرة إلى الامور، ويعتبرون بأن أدوار وأهداف وسياسات الدول ليست متساوية، فيسقطون هذا الطرح على الدور التركي ويحاولون إخراج تركيا من دور البحث عن مصالحها الخاصة. لكننا نرى في دور هاتين الدولتين على الاراضي العراقية لا يكاد يختلف كثيرا. قد يبدو للبعض أن تركيا أقل اندفاعا من إيران في الحركة داخل الاقليم وفي التدخل بالشأن العراقي، لكن ذلك ليس دليلا على أن أن شيطان إيران السياسي أقوى من شيطان تركيا السياسي. إن حركة تركيا السياسية في الاقليم أقل وطأة لانها تعتبر نفسها أكثرية في المنطق المذهبي من إيران، التي تعتبر نفسها أقلية وسط أغلبية، لذا هي تصرخ كثيرا كي تكون مسموعة على نطاق أوسع. ما نخافه حقا من الدورين التركي والايراني، أنهما يؤسسان لمشروع استلاب الهوية العربية من عرب العراق. فالعامة من الناس تنظر إلى همومها الشخصية على أنها أهم من الهم الجمعي في أيام المحن القاتلة، وبالتالي فمن يقدم يد العون المغلف بالمصالح والسياسات الخبيثة التي لا تخطر على بال المواطن البسيط، في هذه الظروف العصيبة التي تمر على العراقيين، سيكون قادرا على تغيير ولاءاته وسلب هويته الوطنية وجعله يُسبّح بحمد الاخرين.
أين العرب من عروبتهم المذبوحة في الموصل والانبار والبصرة وميسان وذي قار وكربلاء وبغداد وديالى؟ هذا هو السؤال الكبير والاهم في الوقت الحاضر، الذي يتكالب فيه الغرباء علينا، كل يدعي أنه الاحرص على بلدنا وشعبنا وسيادتنا.
باحث سياسي عراقي