في المغرب: ضجة مطرب مشهور وحسرة سماك مقهور
د. مثنى عبدالله
Nov 08, 2016
في زمنين متقاربين جدا عصفت بالحياة السياسية والاجتماعية في المغرب حادثتان. إحداهما اعتقال مطرب مغربي مشهور على خلفية تُهمتي اغتصاب في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، والأخرى إزهاق روح بائع سمك مغربي قضى طحنا داخل شاحنة نفايات.
المطرب وجهت له السلطات القضائية الفرنسية تُهمة العُنف العمد في واقعة الاغتصاب، لانه حسب قول تلك السلطات، تناول الكحول والمخدرات عند حدوث الواقعة في أحد الفنادق الفخمة في الدائرة الثامنة وسط العاصمة الفرنسية باريس. وبعد أن اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي مُنددة بُظلم الاستعمار الفرنسي، الذي مازال يُمارسه ضد رموزنا الوطنية والقومية بضمنهم قاماتنا الغنائية الكبرى، كما يعتقدون هم ولست أنا، تحركت السلطات السياسية المغربية أيضا لترد الاعتبار لرموزنا، فأوعز ملك المغرب لعائلة الفنان بتكليف محام فرنسي شهير للدفاع عنه، وأنه هو من سوف يتكفل بدفع أتعاب ذلك المحامي من حسابه الخاص.
هذا هو المشهد الأول من المسرح الواقعي المغربي. أما المشهد الواقعي الثاني فهو يُلخّص قضية المواطن المغربي محسن فكري، بائع السمك ذي الثلاثين عاما، المعيل لأسرة مكونة من عشرة أشخاص، والمنحدر من حي الزاوية الشعبي في مدينة الحسيمة المغربية. وهي المدينة التي كانت قلب الثورة ضد المستعمرين الاسبان في عشرينيات القرن المنصرم، كما حصل فيها تمرد شعبي عام 1958، وهي التي كانت مركز الاحتجاجات الشعبية في العشرين من فبراير 2011 في خضم ما سُمي بالربيع العربي. كان فكري قد اشترى كمية من السمك المحظور صيده بأمر وزير الصيد البحري، بموجب اتفاقية دولية وقعها المغرب تمنع صيده في هذه الفترة لأنه موسم التكاثر، ولعدم توفر وثائق تثبت مصدر هذه الاسماك فإن سلطات الميناء أوعزت برميها في سيارة النفايات تمهيدا لإتلافها، ولأن محسن وضع كل مدخراته في هذه البضاعة، فقد قفز بلا وعي في السيارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ظنا منه أن المسؤولين عن الاتلاف سوف يرأفون بحاله، لكن آلة الضغط في سيارة النفايات كانت قد تحركت فسحنت عظامه مع أسماكه.
يقول الكثير من المواطنين بأن المشهدين المذكورين آنفا يعكسان تماما حالة التمايز الموجودة في المجتمع المغربي، بل يذهب البعض إلى تصنيف المجتمع إلى صنفين، صنف يملك النفوذ فيستطيع أن يعمل ويتصرف حتى خارج أطر القوانين، بينما أجهزة الدولة تغض الطرف عنه وتحابيه، وقد توظف كل جهدها المادي والمعنوي للدفاع عنه إن استلزم الأمر. وصنف أخر معدوم النفوذ ليس لا يستطيع العمل وحسب، بل غالبا ما يتحمل تجاوزات الصنف الأول فينفذ عليه القانون. فقطاع صيد الأسماك في أعالي البحار تسيطر عليه طبقة من المتنفذين، وهم من يحتكرون هذا العمل لأنهم وحدهم لديهم رخص الصيد الصادرة من الحكومة، أي أن محسن فكري كان قد اشترى السمك منهم وفي داخل الميناء، لكن القانون نفذ عليه لا على الصياد، لأن الأخير هو من يملك النفوذ وبالتالي بات الأول هو الضحية. وقد ارتبط هذا الجانب التجاري الكبير بآفة الرشوة، حيث تسمح السلطات المسيطرة على هذا القطاع بصيد الأسماك رغم المنع، كي يصبح بعد ذلك طريقا يمارسون من خلاله الابتزاز على المشتري. وهذه هي إحدى إشكاليات الفساد الإداري الكبرى التي يعاني منها المغرب، والتي خلقت شعورا مجتمعيا قويا بأنهم يتعرضون لحالات مزدوجة من الظلم والإهانة والتهميش من طرف السلطات المحلية والطبقات المهيمنة معا، حتى بات المغاربة يطلقون على مجتمعهم تسمية مجتمع الحكرة، حيث سيطر هذا الشعور عليهم منذ عقود وانعكس بشكل سلبي على العلاقات حتى فيما بينهم، في محاولة للتنفيس عن مشاعرهم هذه، لأنهم لا يستطيعون رد هذه المهانة على مصدرها لأنه من طبقة المافوق. وهنا مكمن الخطر الشديد لانه مهدد أساسي لاستقرار البلد، وأن أي شرارة حتى لو كانت بسيطة يمكن أن تُفجر الغضب الكامن في الصدور والعقول، لعدم وجود قابلية أوسع للتحمل أكثر مما تحمّلت. فالشعوب عندما تصل إلى حالة الغليان بسبب الشعور بالظلم، تبدأ بالبحث حتى عن الأسباب البسيطة كي تجعل منها مبررا ومحفزا للانتفاض والانقضاض. ومن راقب المجال التدويني للمجتمع المغربي على الحادثتين، يجد بصورة واضحة المقارنات المتألمة من موقف السلطات من قضية المطرب المغربي والموقف من قضية الشاب بائع السمك. فهنا تقف الدولة مُسخرة مواردها المادية والمعنوية للدفاع عن متهم، بينما تطحن جسد شاب في مقتبل العمر في سيارة نقل النفايات، دافع عن حقه في العيش وعن رزق عائلته ورفض الإهانة. كما تمسك الكثير من المدونين بقضية عدم قيام رئيس الحكومة بزيارة شخصية لعائلة الفقيد وتقديم التعازي لهم، واعتبروها مؤشرا على سياسة الكيل بمكيالين تجاه أفراد المجتمع. وكان المغزى واضحا جدا أثناء التشييع عندما تم رفع العلم الأمازيغي، وعلم ثورة الريف، وشعار حركة العشرين من فبراير الاجتماعية عام 2011، كرامة، حرية، عدالة اجتماعية. فهذه الرموز كلها تشير إلى أسباب الحراك الاجتماعي في الماضي والحاضر، وتربطه ربطا جدليا بعضا ببعض بغض النظر عن طبيعية الوجوه السياسية التي مرت.
أن حادثة المواطن محسن فكري ليست ظرفا شخصيا يخصه هو وعائلته فحسب، بل هي إشكالية أزلية في مجتمعاتنا العربية تطرح أسئلة كبيرة وكثيرة، عن مديات وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين المجتمع نفسه، بدليل أنها متكررة في كل زمان ومكان. فما حدث لهذا المواطن وما رافق الحادثة من تظاهرات واحتجاجات ذكرتنا بما حدث مع البوعزيزي في تونس، بل يكاد الموقف أن يكون نسخة طبق الاصل منه، وهو الاندفاع نحو الموت للتطهر من الاهانة التي تعرضوا لها أمام المجتمع. فالسلطات الحاكمة في أقطارنا العربية لا زالت حتى اليوم لا تعي ما هي الأسباب الحقيقية، التي تدفع مواطنها للاشارة عليها بأصبع الاتهام عن كل ما يحصل داخل مجتمعاتنا. فهذا المواطن يقينا لم يكن ضده حكم مسبق بالقتل من قبل السلطات، لكن الرأي العام يشير إلى اتهام السلطات بالحادث، لان في داخل الوعي الجمعي هنالك خزين من سوء السلوك الذي مارسته السلطات ضدنا، وعدم مراعاتها لأبسط حقوق الإنسان، وأن تصرفاتها معنا دائما ما تأتي على عجل وبغضب وانتقام، وهي دائمة النسيان بأن واجبها أن تكون محامي دفاع عن كل مواطن، بما يحفظ له حق الحياة الحرة الكريمة. فجيوش البطالة في صفوف الشباب المغربي والعربي عامة، تدفعهم للهجرة والعيش بذل في مجتمعات أخرى بعيدة الصلة عن عاداتهم وتقاليدهم، أو أن يعضوا على ألمهم ويعملوا بما ليس له صلة بسنوات الدراسة التي قضوها، وبالتالي يتعرضون للاهانة والتهميش من سلطات بلدهم.
لقد خسر المغرب مواطنا وعائلة، فما نفع اللجان التي تحقق في الموضوع، دون دراسة واعية لأسباب الفوارق والتمييز بين المواطنين؟
باحث سياسي عراقي