من يحمي الأوطان البشر أم الحجر؟ العراق أنموذجا
د. مثنى عبدالله
Feb 14, 2017
كنا طلابا في المدارس الابتدائية، نقف صباح كل يوم خميس متحلقين حول سارية علم العراق، مرددين بصوت واحد نشيد الجيش سور للوطن. لم نسمع يومها من يقول بأن الحشد الشعبي الشيعي سور للوطن، أو الحشد العشائري السني سور للوطن، أو البيشمركة الكردية سور للوطن، أو الميليشيات التركمانية والإيزيدية والمسيحية سور للوطن.
في عقولنا وقلوبنا لنا وطن واحد نحفظ عن ظهر قلب حدوده وأنهاره وجباله وسهوله ووديانه، وله خريطة تشير إلى أنه واحد موحد، وأن الوسط الذي نعيش فيه مجتمع واحد تُطلق عليه تسمية عراقيين وحسب. لذلك كنا نقف في ساحة المدرسة متزاحمين بالمناكب والأقدام، وقد انصهر الجميع في بوتقة الوطن.
يقينا يعرف كل منا قوميته لكنها لم تكن ذات ألوان فاقعة، وبوجه بعضنا بعضا نجعلها سيوفا مشرعة، وذات أعلام ورايات وحدود حمراء، تمزق خريطة الوطن الواحد. لكننا جميعا كنا مترفعين عن ذكر الطائفة، فلم يكن يعرف أحدنا الآخر بطائفته أو مذهبه. كنا نعرف المسيحي والصابئي فقط حينما يدخل علينا مدرس مادة الدين، فيسألهم وبكل مودة إن شاؤوا الخروج أو إن شاؤوا البقاء، لأن الدرس سيكون مخصصا فقط لشرح تعاليم وأحكام الإسلام، باعتباره دين الدولة الرسمي تبعا للغالبية العظمى التي تدين به. فكان زميلي المسيحي يُجيب في كل مرة على طلب المعلم بأنه يود البقاء معنا، ولا يفضل الخروج من الصف، فيبقى مستمعا لكل ما يدور حول الإسلام بعقل منفتح ونفس لا تعرف الاشمئزاز من الاختلاف. أما في المجال الوظيفي فكان القانون يفرض على الكثير من موظفي الدولة العراقية الخدمة في المحافظات الاخرى. كان المعلم والطبيب وغيرهما يجب أن يمارسوا الوظيفة العامة خارج المحافظات التي يسكنون فيها. كما أن كل مواطن حر في أن ينقل سكنه إلى أي بقعة في أرض الوطن، من دون قيد أو شرط. أما من يعمل في سلك الجيش أو الشرطة والاجهزة الامنية، فلا يقر له قرار في مكان واحد، حتى تكاد تجد أبناء العائلة الواحدة التي رب الاسرة فيها عسكري، أن ابناءه قد ولد كل واحد منهم في مكان مختلف في أرض الوطن نتيجة تنقلاته المستمرة. وغالبا ما كان الموظفون، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، يستقرون في المحافظات التي ينتقلون للعمل فيها، ولا يودون العودة إلى مدنهم الأصلية، لأنهم عراقيون والوطن للجميع. لذلك كانت اللحمة الوطنية منصهرة إنسانيا ومترفعة عن كل الهويات الفرعية الأخرى.
نسوق هذه المقدمة كمدخل لما تم الإعلان عنه مؤخرا، من أن الحكومة العراقية قد باشرت ببناء جدار أمني سيُحيط بالعاصمة بغداد، ذي بوابات يتم فيها تفتيش الأفراد والعجلات بغرض الحد من التفجيرات التي تطال العاصمة بين الحين والاخر. كما سبق هذا المشروع مشاريع جدران أخرى أحاطت بعدد آخر من المحافظات العراقية، لكنها لم تستطع أن تحد من عدد السيارات المفخخة ولا الانتحاريين.
وجدير بالذكر أن قوات الاحتلال الامريكي التي كانت تجوب بقوتها العسكرية الهائلة كل شوارع وأزقة العاصمة، وكانت لديها سيطرات ثابتة ومتحركة في كل مكان، قامت أيضا بتقطيع أوصال بغداد بآلاف الجدران الكونكريتية، لكن التفجيرات كانت مستمرة ولم تحد منها كل هذه الاجراءات. ومازالت حتى الان أحياء بغداد وشوارعها ومتاجرها ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية والاهلية، تحيط بها الجدران فتقطعها عن بعضها بعضا، بل إن عددا من أحياء العاصمة لا يدخلها ساكنوها الا ببطاقة السكن التي تثبت انهم من سكانها، كما أن شارع الرشيد التاريخي والرئيسي في العاصمة بعض اجزائه لا يدخلها احد الا بعد المرور بسيطرة للتفتيش. وفي الوقت الذي تتسابق فيه الدول لاستخدام كل وسائل التكنولوجيا المتطورة، لمراقبة حدودها ومداخل مدنها والشوارع المهمة فيها، بما يؤمن انسيابية حركة الافراد والسيارات، نجد أن الحكومة العراقية تعود إلى استخدام أساليب عفى عليها الزمن، وتعتبر من أقدم أشكال الدفاع عن المدن.
وإذا كانت هنالك من إشارة في هذا النهج فإنه يشير وبكل وضوح إلى طبيعة العقلية السياسية والامنية التي تقود البلد، وهو تأكيد على فشل ذريع في التصدي للمشكلات التي تعصف بالمجتمع، كما أنه يعطي انطباعا بأن كل هذه الاجراءات لها هدف آخر ليس أمنيا، بل يمكن أن يكون مشروع تغيير ديموغرافي سمعنا أصواتا كثيرة تُلمّح له، كما شاهدنا إجراءات ضد سكان مناطق محددة تشير إليه. فاذا كان الهدف حقا هو حماية العاصمة من الانتحاريين والسيارات المفخخة، فالمنطق يقول إن تعزيز الإجراءات الامنية في هذا النوع من العمليات غير مجد إطلاقا. لانك لو وضعت رجل أمن واحدا أو ألفا في هذا الحي أو الشارع فالنتيجة الامنية واحدة، لان من يريد تفجير نفسه لا يمكن لأحد إيقافه، وأن كل الحواجز الأمنية تعتبر ساقطة أمنيا لأنه سيصل إلى ما يريد. الطريقة الوحيدة التي تقف بوجه هذا الاسلوب هو عندما يفكر المسؤول بضمير ناصع البياض وعقل منفتح بشعبه عندها سيجد كيفية مواجهة هذا الموضوع. فالاستقرار الأمني هو نتيجة تأتي من مقدمات أساسية، وحدة مجتمعية، وتناغم سياسي، وقاعدة اقتصادية، وهذه كلها غير موجودة في العراق. فالنظام السياسي منقسم على ذاته، ونظام المحاصصة قسّم المجتمع إلى طوائف وأعراق ومواطنين من الدرجة العليا والدنيا. وهذه البُنية السياسية والمجتمعية تساعد على الاختراق الامني والثقافي والفكري. كما أنها وسط نموذجي لكل الجماعات الخارجة عن القانون تعتاش وتزدهر فيها، والتي ليس من صالحها مطلقا أن يتكامل مشروع الدولة وسيادة القانون وسيادة قيم التعايش والسلام بين الناس، وجدار بغداد هو النتاج الفعلي للعقول المريضة لهذه الجماعات.
الاسئلة المهمة هنا هي ما فائدة الجدران الاسمنتية العازلة والسيطرات الثابتة والمتحركة، والدخول إلى المدن بـ»باجات» وهويات خاصة، وأنت جعلت الكثير من العراقيين يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم، ويعيشون غربة حقيقية يومية؟ ما فائدة كل هذه التحصينات وقد تحقق هدف كل الجماعات المسلحة، وهو زرع الشعور لدى المواطنين بأن الحكومة غير قادرة على حمايتهم، بل أنها حتى غير قادرة على حماية نفسها وتتحصن بمنطقة معزولة من بغداد؟
يقينا أن الأمن ليس أنك تحكم من خلال الشرطة والجيش والاجهزة الامنية عندما يكون عددها أكثر من مليون، بينما يكون تعداد السكان خمسة وثلاثين مليون نسمة. الامن عملية أشبه بالنسغ الصاعد والنازل ما بين الحاكم والمحكوم. فكلما ذهبت بعيدا في تملك الدولة وجعلها أداة للاثراء غير المشروع للحاشية والاقارب والمتحزبين، أدى ذلك إلى رفض اخلاقي لها من قبل الناس لانها سوف لن تكون قادرة على أن تُدخل عناصر المنافسة الشريفة بين الناس للحصول على الفرص. كما أن سياسة الانتقام والنبش في الماضي والنفخ في الخوف المذهبي كلها تؤدي إلى هلهلة النسيج الاجتماعي. وهذه كلها عناصر تجعل المواطن يشيح بوجهه عن كل ما يهدد الامن المجتمعي، ويجد ألا مصلحة له في إيصال المعلومة الصحيحة إلى الجهات المسؤولة. وأن أول ما تحتاجه معادلة الأمن الناجح هو العدالة، فإذا كانت عدالة الحكم هي العنف غير المبرر، فإن عدالة المضطهدين والمظلومين ستكون غض النظر عن كل ما يهدد الدولة.
باحث سياسي عراقي