حين لا تقاس أدوار الدول بالجغرافيا والديموغرافيا
د. مثنى عبد الله
May 02, 2017
في كل مرة يُسلط هذا البلد العربي الضوء على أدواره السياسية، فالسياسة هي فن الممكن التي تجيدها قطر، لكن فن الممكن هذا خلق أعداء كثراً لها وهذا بديهي، خاصة في هذه المنطقة الملتهبة ليس بالتكالب الخارجي عليها وحسب، بل في التنافس الحاد على الزعامة السياسية في المنطقة الى حد التباغض والعداوة وحياكة المؤامرات. وقد ألقى نجاح الدبلوماسية القطرية في موضوعة الافراج عن الصيادين القطرين سالمين، والذين خُطفوا في العراق قبل أكثر من عام ونصف، مزيداً من الضوء على الادوات التي يستخدمها صانع القرار السياسي القطري، وحدود إمكاناته وسعة حرية الحركة التي يمتلكها.
وغالباً ما ينظر البعض فقط الى المليون ونصف المليون نسمة الذين هم تعداد نفوس مواطني هذا البلد، والى الأحد عشر ألف كيلومتراً مربعاً التي هي مساحته، فيتمتمون كيف لبلد هذا هو واقعه الجغرافي والديموغرافي أن ينشط دبلوماسياً الى هذا الحد ويحقق نجاحات كبيرة؟ لكنهم ينسون أن بريطانيا العظمى جزيرة صغيرة معزولة، لكنها كانت تحتل الهند التي هي أضعافها في المساحة والسكان. وأن بلجيكا البلد الصغير جداً كانت تحتل الكونغو في وسط أفريقيا.
وهنا يبرز قول الزعيم الفرنسي شارل ديغول حينما يقول (ليس هنالك من سياسة خارج الواقع). أي أن سياسات الدول قائمة على أساس تحليل للواقع وليس من وحي الخيال، وأن الادوات المتوفرة على أرض الواقع هي التي تنقل السياسات من وحي الافكار الى أرض التطبيق. هنا يجب النظر الى قطر إضافة الى عامل السكان والمساحة، أنها غنية بالنفط والغاز وهما سلعتان استراتيجيتان حتى اللحظة، فهي تصدر الى أوروبا أكثر من ربع احتياجاتها من الغاز، ولديها خطط للتوسع بتصدير الغاز الى أوروبا عن طريق تركيا. كما أنها ذات مشاريع استثمارية طموحة أدت بها الى لعب دور هام في المجالات الاقتصادية الدولية، حيث بادرت لشراء سندات خزائن في عدد من الدول الاوروبية، فساعدت الكثير من المؤسسات المالية فيها على النهوض من جديد بعد انتكاسة الاقتصاد العالمي، وباتت لاعباً أقتصادياً مهماً على الساحة الدولية خاصة في منطقة اليورو. وهي اليوم لديها صندوق مالي سيادي بحدود سبعمئة مليار دولار.
أما في المجال السياسي فإن القطريين تخطوا كثيراً عنصر المساحة والسكان، وباتوا لا ينظرون الى هذين العاملين كحدود لادوارهم السياسية. كانت هنالك دول عربية تاريخياً هي الممثل الوحيد للعرب أمام أمريكا وأوروبا، لكن السياسة القطرية دخلت كمنافس كبير في هذا الجانب ولعبت أدواراً كثيرة وكبيرة بالتعاون مع الاوروبيين والامريكيين. كما أنها اختارت العمل السياسي في الساحة الافريقية التي فيها تنافس دولي كبير، وابتدأت العمل في جنوب هذه القارة وفق رؤية تقول، إن من يمد نفوذه في هذه الدول سيصبح لديه نفوذ في كل أفريقيا من الناحيتين الجيوسياسية والاقتصادية.
لقد سعى صانع القرار السياسي في هذا البلد الى بناء قوة ناعمة قادرة على التأثير في الاخرين، قوامها أسطورة إعلامية ممثلة بقناة الجزيرة، وازدهار اقتصادي كبير، والقدرة على التواصل مع كل المحيط، وأفكار خلاقة، ومجتمع متماسك ونشط فيه المرأة ذات دور حيوي يفقن قريناتهن في الدول المجاورة. كما أنه استغل الموقع الجغرافي المميز من الناحية الاستراتيجية ليعطيه أهمية كبرى في المصالح الدولية. وهو يستخدم كل هذه لتحقيق رؤيته ومصالحه الوطنية، فاندفع لاستغلال الفراغ الكبير الحاصل في المنطقة بعد انكفاء الكثير من الدول العربية وتحولها الى دول فاشلة، ليبني لنفسه دوراً في أحداث كثيرة. ففي ليبيا كانت من أول الداعمين للحراك الذي حصل هنالك، وشاركت طائراتها في عمليات الناتو في ليبيا. وفي سوريا وتونس ومصر كان لها تحرك داعم لطرف ما. وكل هذه الادوار ذات كلف سياسية واقتصادية وحتى أمنية، لكنها ترى في كل الادوار التي تقوم بها وسائل حماية شرعية لنفسها. بمعنى أنها عندما تشارك في حدث ما الى جوار قوى دولية مهمة، فإنها بشكل مباشر أو غير مباشر إنما توفر الحماية لنفسها من التأثيرات الخارجية وهي كثيرة وخاصة النفوذ الايراني المتنامي بشكل كبير في المنطقة، والذي يحاول استغلال الدين في التأثير على النظم السياسية للدول الاخرى، وبالتالي هي تحافظ على أمنها الداخلي بدورها مع الضامنين الدوليين.
لكن هذه الادوار لم تكن كلها ناجحة، إذ يقول المنتقدون لسياستها بأنها لا تعرف كيف تحقق أهدافها بصورة جيدة، ويستدلون بذلك على أنها دعمت الرئيس المصري الاسبق محمد مرسي لكن دعمها ذهب أدراج الرياح، وحاولت الاستثمار السياسي في ليبيا وتونس لكن من دعمتهم لم يصلوا الى السلطة، ومن ساندتهم في سوريا لم يستطيعوا إحراز نصر على الرئيس الاسد. ويعزو هؤلاء هذه الاخفاقات الى أن الادوار التي يلعبها هذا البلد ليست مستقلة، بل أن أدوات سياسية لدول كبرى هي المحرك الفاعل في هذه الادوار. في حين يرى آخرون بأن المنطق السياسي يربط ما بين الدور وحجم البلد، وبذلك فإن فشل بعض الادوار القطرية مرده الى أنها تقوم بأدوار أكبر من حجمها، لان إمكاناتها الديموغرافية محدودة وهي بلد صغير جداً يقع بين بلدان خليجية كبرى، في إشارة الى السعودية وإيران. كما أن هنالك دولاً عربية أخرى دورها محوري في المنطقة من زمن بعيد هي الاخرى لا تسمح بتنامي دور هذا البلد على حسابها، كمصر مثلاً.
إننا نرى بأن صانع القرار السياسي القطري يعي جيداً القدرية الجغرافية والديموغرافية لبلده، لذا ذهب بعيداً في صنع وسائل لتحقيق سياساته واستثمار موارده الاستراتيجية، كي يضع اسم هذا البلد في صميم الاهتمام العالمي فينعكس عليه أمناً ورخاءً. وقد نجح هذا المسعى الى حد كبير وباتت دول كبرى ترى أن من مصلحتها تعزيز القوة الناعمة لدى قطر. لكن تشابك المصالح لدولة مثل قطر مع مصالح دولية كبرى، لا يعطيها كل ما تريد ولا يمكن أن يمنحها حرية التصرف وفق مصالحها الوطنية والقومية، فالسياسة الدولية فيها كبار وصغار ودوليون وإقليميون، وهنالك خطوط حمر ممنوع تجاوزها. الشيء الاخر المهم الذي يجب إيراده هنا هو أن الدول التي لديها سلعة استراتيجية ذات أهمية كبرى للاقتصاد العالمي كالنفط والغاز، تصبح غير حرة تماماً في صناعة قرارها السياسي والاقتصادي بسبب تداخل المصالح الدولية.
باحث سياسي عراقي