كركوك والعلم الكردي
ألغام الدستور والجوار شغلت القضيّةُ الكرديّة الدولةَ العراقية منذ تأسيسها عام 1921 وإلى الآن، ورغم تبدّل الأنظمة السياسيّة وتعاقب الحكومات المختلفة، فإنّها ظلّت قائمة ومحتدمة. ولا يتعلّق الأمر بالعراق وحده؛ فقد توزّع الكرد على أربع دول هي: تركيا وإيران وسوريا إضافة إلى العراق.
ولأنّ المنطقة تحظى بأهمّية جيوبوليتيكيّة إستراتيجيّة واقتصاديّة مهمّة خصوصاً بوجود النفط؛ فقد كانت ولا تزال مركزاً للصراع والنفوذ الإقليمي والدولي.
ومع أن الأكراد في العراق أفضل وضعا من نظرائهم في الأقطار الثلاثة الأخرى لكونهم حصلوا على حقوق لا يزال يحلم بها أولئك؛ فإنّ استمرار وجود بؤر للصراع وتقاطعات حادّة بين الطموح والواقع، إضافة إلى عدم ثقة متبادلة بخصوص المستقبل، يجعل التفكير في قيام كيان كردي مستقلّ موضع تنازع بل وصراع قد لا تُعرف أبعاده.
كركوك والعلم الكردي
وقد تجلّى ذلك في الفترة الأخيرة بإعلان الرغبة في الانفصال أو الاستقلال بإجراء استفتاء كردي، ظلّ مطلباً يتحرّك كلّما اشتدّت الخلافات مع بغداد. وهو مطلب يكاد يحظى بإجماع كردي بالاستفتاء أو بدونه، إضافة إلى إعلان التمسّك بكركوك باعتبارها "قدس الأقداس" ورفع علم كردستان على مبانيها الحكومية، علما بأن كركوك اعتُبرت من المناطق المتنازع عليها طبقاً للمادة 140 من الدّستور الدّائم.
إنّ مقاربة المسألة الكرديّة وقضيّة الاستقلال والتحدّيات التي تواجهه تبدأ من الأزمة الجديدة/القديمة؛ فالمدخل مثلما هو المخرج سيكون كركوك ونفطها الذي هو مصدر الصراع التاريخي الرئيسي في هذه المنطقة التي تتشابك فيها مصالح القوى الإقليميّة والدوليّة، وما قصّة رفع العلم الكردستاني وإجراء الاستفتاء إلا ذريعة إضافية لتلك الأزمة المعتّقة.
- اقتباس :
- "مقاربة المسألة الكرديّة وقضيّة الاستقلال والتحدّيات التي تواجهه تبدأ من الأزمة الجديدة/القديمة؛ فالمدخل مثلما هو المخرج سيكون كركوك ونفطها الذي هو مصدر الصراع التاريخي الرئيسي في هذه المنطقة التي تتشابك فيها مصالح القوى الإقليميّة والدوليّة"
وجّه محافظ كركوك -وهو مقرّب من كتلة الاتّحاد الوطني الكردستاني (أوك) برئاسة جلال الطالباني- كتاباً رسميّاً إلى جميع الدّوائر الحكوميّة طلب منها رفع العلم الكردي، علماً بأنّ الأعضاء الكرد هم وحدهم الّذين صوّتوا إلى جانب القرار ولم يحضر الاجتماع الأعضاء العرب والتركمان.
وبهذا المعنى فالقرار كردي فقط، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ رفع العلم هو عمل من أعمال السّيادة وليس من اختصاص المحافظ أو مجلس المحافظة، الذي ردّ على التّفسير القانوني بتفسير آخر يقول إنّه من حق مجلس المحافظة أن يقرّر رفع العلم الكردي طالما أنّ المحافظة لم يُحسم أمرها، فكما يحقّ للحكومة الاتحاديّة رفع علمها فمن حقّ إقليم كردستان رفع علمه أيضاً.
أمّا البرلمان العراقي فصوّت ضدّ قرار مجلس المحافظة برفع العلم الكردي في جلسة غابت عنها الكتلة الكردية، وهو وإن حصل على الأغلبية لكنّه حَسم الأمر بمقاطعة ممثّلي الكرد، مثلما حُسم أمر رفع العلم في المحافظة بغياب ممثّلي العرب والتركمان.
وفي تطوّر آخر أكثر خطورة له علاقة بالجغرافيا السّياسية (الجيوبوليتيك)، عُقد اجتماع مشترك للحزبين الكرديين الرّئيسيّين (الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة رئيس الإقليم مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني)، وتمخّض الاجتماع عن تشكيل لجنة مشتركة لبحث موضوع الاستفتاء بشأن مستقبل إقليم كردستان.
وهو أمر طالما دعا إليه البارزاني، وازدادت وتيرة هذه الدعوة في السنتين الأخيرتين الّلتين شهدتا صراعاً بينه وبين بغداد من جهة، ومع غريمه الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة كوران (التّغيير) برئاسة نوشيروان مصطفى من جهة أخرى.
وإذا كان حزب البارزاني قريباً من أنقرة، فإنّ الاتحاد الوطني وكتلة كوران قريبان من طهران وبالتّالي فهما أقرب من البارزاني إلى بغداد، ناهيك عن مشاكلهما معه، وهي مشاكل بعضها تاريخي والآخر راهن بسبب الصراع على السلطة والصلاحيّات والمال.
إنّ الاجتماع المشترك الذي انعقد في أربيل برئاسة البارزاني شدّد على أنّ علم كردستان الذي رفرف على كركوك لن ينزل من فوق أبنية الدّوائر الرّسميّة، وأنّ الاستفتاء سيشمل حقّ تقرير المصير واستقلال كردستان بشكل منفصل.
واعتبر الحزبان الكبيران ذلك مسألة قوميّة ووطنيّة، وقرّرا تشكيل لجنة مشتركة للاتّصال بالقوى السياسيّة الكردستانيّة لتوسيع الّلجنة وتحديد موعد الاستفتاء وآليّاته. واتّهم الحزبان بغداد بالتّنصّل -منذ سنوات- من استحقاق المادّة 140 في الدستور، الخاصّة بالمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والحكومة الاتحادية.
ألغام الدستور والجواربمراجعة الدّستور العراقي فإنّ المادّة 12 منه تقرّر أنّ موضوع العلم يصدر بقانون اتّحادي يصوّت عليه البرلمان، وأكدت المادّة 140 أن على السلطة التّنفيذيّة الاتحادية أن تُولي أهمّية لاتخاذ الخطوات الّلازمة لاستكمال تنفيذ متطلّبات المادّة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (المرحّلة المؤدية إلى الدّستور الدّائم)، والمتعلّقة بتطبيع الأوضاع في كركوك.
وبالعودة للمادّة المذكورة، فإنّ العملية تتطلّب ثلاث مراحل (متكاملة ومتداخلة): أولاها التّطبيع وإعادة المرحّلين وتعويضهم، وثانيتها الإحصاء (السّكاني) وكان إحصاء عام 1957 قد جاء بأغلبية التركمان في مدينة كركوك، لكنّ تغييرات ديمغرافية حصلت أدّت إلى زيادة نسبة العرب حتّى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
- اقتباس :
- "لعلّ ما يجري في كركوك قد يكون بروفة أولى لما بعد مرحلة تنظيم الدولة، وهو سيناريو قد يدفع البلاد إلى المزيد من التفكّك والتفتّت، إن لم تتمّ إعادة النظر في الدّستور وطبيعة النّظام السّياسي، على أساس مصالحة وطنيّة حقيقيّة وشاملة، واعتماد مبادئ المواطنة والمساواة كأساس في دولة المواطنين"
ومنذ ذلك العام وإلى حدّ الآن فإنّ نسبة العائدين من الأكراد أدّت إلى زيادة عدد الأكراد في المحافظة، ناهيك عن تغييرات ديموغرافيّة مضادّة شملت عرب وتركمان المحافظة، وهو ما يحتجُّ به بعض مَن يدّعون تمثيل العرب والتركمان. أمّا المرحلة الثالثة فهي الاستفتاء. وهذه المراحل جميعها لم تحصل حتّى الآن.
وفي اعتقادي أنّ الألغام الأساسيّة جاءت في الدّستور الذي هو السبب الرّئيسي للمشكلة، وذلك حين تحدّث عن المكوّنات العراقية ثماني مرّات، الأمر الذي عوّم فكرة المواطنة والدولة المدنيّة التي هي اتّحاد مواطنين وليست اتّحاد مكوّنات إثنية أو دينيّة أو طائفيّة.
كما أعتقد أنّ المشكلة لن تُحلّ حلّاً بفرض الأمر الواقع من هذا الفريق أو ذاك، لأنّ كركوك كانت تُعتبر في الماضي مدينة التّعايش السّلمي عرقيا ودينيا وطائفيا، ولذلك يلزم -عند التّفكير في أيّ حلّ- أخذ فسيفساء سكانها المتنوّعة بنظر الاعتبار. والأهم من ذلك؛ ألا تكون المنافسة للاستحواذ على مناطق النّفوذ، بل لتقديم الخدمات البلدية والصحية والتعليمية للناس، إضافة إلى توفير فرص عمل.
وبسبب الصراع السياسي وعدم تطبيق المادة 140 التي تتنازع الأطراف المختلفة على عدم تنفيذها، كما تذهب إلى ذلك الأمم المتّحدة التي هي معنيّة بمتابعة هذا الأمر؛ لم تُجرَ انتخابات لمحافظة كركوك استثناءً من بقية المحافظات العراقية، وذلك حتّى قبل هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية.
إنّ كرة الثّلج قد تتدحرج أكثر؛ إذ تردّدت دعوات من مجلس المحافظة (المهيمن عليه كردياً) إلى إعلان ضمّ كركوك للإقليم، ثمّ إجراء استفتاء في المحافظة على هذا القرار.
وهو ما دفع دول الجوار -لا سيّما تركيا وإيران- للدّخول على الخطّ، حيث اعتبرت أنقرة هذه الخطوة "خطأ كبيرا"، واتصل رئيس الوزراء التّركي بن علي يلدريم هاتفيّاً بنظيره العراقي حيدر العبادي معبّراً عن وجهة نظر بلاده بقوله: لن نقبل بفرض الأمر الواقع وقد نبّهنا الكرد إلى ذلك، ملمّحاً إلى إمكانية تدخّل الأمم المتّحدة في حال اقتضى الأمر.
أمّا إيران (حليفة بغداد وعدة قوى كردية) فقالت: إنّ رفع العلم يؤدّي إلى المزيد من التوتّر. في حين كان تعليق الأمم المتّحدة -على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريس الذي زار بغداد- التأكيد على وحدة العراق والتّعايش بين "مكوّناته" لا سيّما في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة. واتجهت قمّة البحر الميت (عمّان) إلى ضرورة "الحفاظ على وحدة العراق واستقلاله ومواجهة الإرهاب والتطرّف".
لعلّ ما يجري في كركوك قد يكون بروفة أولى لما بعد مرحلة تنظيم الدولة، وهو أحد السيناريوهات التي قد تدفع البلاد إلى المزيد من التفكّك والتفتّت، إن لم تتمّ إعادة النظر في الدّستور وطبيعة النّظام السّياسي، على أساس مصالحة وطنيّة حقيقيّة وشاملة، واعتماد مبادئ المواطنة والمساواة كأساس في دولة المواطنين، وليس دولة المكوّنات التي ستؤدّي إلى تكريس الطائفيّة السياسيّة والانقسام الإثني.