أذكروها فقد باتت أثرا بعد عين
د. مثنى عبدالله
Jul 18, 2017
منذ ثلاث سنوات بات اسم الموصل العراقية يتردد في الإعلام، ولم يكن يعرفها من قبل إلا الأقربون في الجغرافيا، لكن التاريخ كتب اسمها كإحدى الحواضر العربية، وخزان عروبة وإسلام وأديان أخرى وقيم أصيلة.
ولأن المدن كائنات حية كلما امتدت جذورها إلى أعماق التاريخ، انطلقت سهامها إلى المستقبل البعيد وباتت مؤثرة في رسم ملامح الغد، فقد تعرضت الموصل إلى نكبات كثيرة، إلى الحد الذي استفاقت فيه المدينة في فجر أحد نهاراتها الوحشية، لتجد فيه أعمدة التيار الكهربائي وقد أصبحت مشانق، علق اليسار العراقي عليها خيرة رجالها بتهمة العروبة، وحوصرت مرات عديدة في التاريخ القديم والحديث حتى لم يجد أهلها لقمة خبز يأكلون. نعم إنها الموصل إحدى المحافظات العراقية الشمالية التي سيطر عليها تنظيم «الدولة» في يونيو 2014، والتي أعلن رئيس الوزراء العراقي عن تحريرها الأسبوع الماضي.
وما بين انتهاء المعارك العسكرية والتحرير فرق كبير في المعاني والمفاهيم والسلوكيات. فتحرير الأرض واجب والاحتفاء به طقس مقدس من طقوس النصر، لكن أنى له أن يكون ناجزا إن لم يكن الإنسان الذي يعيش على تلك الارض قد تحرر. فالخراب والدمار المادي عم كل أرجاء المدينة المحررة، وباتت فيها الاف الرموز الدينية والتراثية والعمرانية أثرا بعد عين، لكن الأهم هو الانسان، وهل مازال الوطن يشكل ومضة معنوية في ضمير الموصليين؟ هنا نجد المعنى الحقيقي للتحرير. فالموصل مدينة حالها حال كل المدن في العالم، لكن القيم التي التزم بها أهلها ومارسوها في تعاملاتهم، هي ما جعلتها مميزة عن غيرها من الجغرافيات الاخرى، فهل مازالت القيم هي نفسها؟ أم أن استبداد السلطات والميليشيات وظروف العنف والحرب، تخلق حالة جديدة من العلائق بين الناس تختلف اختلافا جذريا عما سبق؟
في أول تعليق له على النصر في الموصل قال بيان التحالف الدولي: على العراق ضمان عدم عودة الظروف التي أدت إلى ظهور تنظيم «الدولة». ولو عدنا إلى مسرح العمليات العسكرية مستعينين ببيانات التحالف الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، لوجدناها زاخرة بالإشارات المؤكدة من قبل مصادرها بأن المدنيين قد دفعوا ثمنا فادحا في هذه الحرب، لعل أبرزها هو قصف التحالف الدولي منزلا كان السكان قد تحصنوا فيه، ما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى، في مجزرة كبيرة اعترف بها الامريكان، وبرروها بأن القوات العراقية أعطتهم الاحداثيات الخطأ. ولو تصفحنا التقرير الشهير الاخير الذي اصدرته منظمة العفو الدولية، لوجدنا بأنها رصدت انتهاكات للقانون الدولي الانساني، تصل إلى درجة جرائم حرب. فحسب التقرير أن تنظيم «الدولة» استخدم المواطنين الابرياء دروعا لحماية مقاتليه. كما قالت مسؤولة كبيرة في المنظمة «إن الفضائع التي شهدها الناس في الموصل، واحتقار الحياة الانسانية من جانب كل أطراف النزاع، يجب أن لا تبقى دون عقاب».
أما على الجانب الاخر فقد بدأت الفيديوهات المسربة من عناصر الجيش بالظهور في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تسجل صورا مرعبة لجرائم حرب وعقوبات جماعية وممارسات وحشية، تحاكي بشكل مستنسخ كل الأفعال التي مارسها تنظيم «الدولة»، ما يشير إلى غياب الضبط العسكري، وعدم التزام واضح بقوانين الحرب، وتنصيب جنود بسطاء أنفسهم قضاة ينفذون القتل بمن وقع بين أيديهم دون أية محاكمة. كما عادت الاصوات الطائفية مرتفعة النبرة مرة أخرى، بمجرد الاعلان عن استعادة الموصل، متهمة جزءا كبيرا من الشعب العراقي بأنه من سهّل وسرّب عناصر التنظيم إلى الموصل، التي انتهت بسيطرته عليها، إلى الحد الذي وقف فيه أحد زعماء الميليشيات ليقول للمكون السني، إن الشيعة لن يلدغوا مرتين من جحر واحد. بمعنى أنكم من أدخل تنظيم «الدولة» إلى الموصل وغير الموصل، فيما تغيب عن ذهنيته وغيره من المسؤولين من أن عوامل نجاح التنظيم في السيطرة على الاراضي العراقية، كانت لها أسبابها التي اعترف بها كل المجتمع الدولي، وهي رخاوة الدولة الجديدة التي اعتمدت المحاصصة الطائفية، والتي تحولت بسببها مؤسسات كبيرة إلى مؤسسات طائفية تستهدف الاطراف الاخرى على أساس الهوية المذهبية والدينية والعرقية.
كما غاب عن ذهن الرجل أية نية في محاسبة من كانوا في موقع المسؤولية العسكرية والسياسية عن الهزيمة. وهنا يرتفع مجددا مفهوم الطائفة المنتصرة التي يجب أن لا يُمس اي مسؤول فيها، حتى لو كان أحد أسباب الهزيمة الكارثية التي حصلت للمؤسسة العسكرية، بينما الطائفة الاخرى هي في عُرفهم باتت مهزومة وعليها استحقاقات يجب أن تدفعها لهم.
لقد تلاشى تنظيم «الدولة» عن الموصل، والاولى أن يسهم كل من يدعي المسؤولية الدينية والسياسية بعمل جاد ومسؤول، كي تتلاشى الظروف والعوامل والممارسات التي أنتجت التنظيم، لا أن تبدأ التصريحات الرنانة والاستفزازية التي تتهم هذا الطرف وذاك. فلحظات النصر في كل الحروب هي مناسبات للتغاضي عن الاخطاء والارتفاع فوق الانانية والحقد. والعمل السياسي عمل مستقبلي لا يتوقف عند تحقيق هدف معين، بل لكل مرحلة ظروفها وأهدافها وغاياتها، وظروف الحرب تولد ظروفا جديدة على المسؤول أن يتصدى لها بجدية، لان أي فشل في هذا الجانب يعني استمرارية حرب الموصل، وبصيغة جديدة ضد جزء آخر من الشعب العراقي، يتهمه البعض بأنه السبب فيها، وأن أول الظروف التي يجب أن يتم التصدي لها، هي العمل بجد ونزاهة، على أن يمثل جميع من تسبب في سقوط الموصل وغيرها أمام القضاء العسكري، مجردين من حماية الطائفة والعشيرة والحزب، وهذه هي أولى مهام مرحلة ما بعد تنظيم «الدولة». ويجب العمل الجاد على فتح الافق السياسي وقطع دابر الصراع بين المكونات السياسية، القائم على أسس مذهبية، لانهما الارض الخصبة لولادة موجات جديدة من العنف في العراق. كما ستظهر إلى العلن استحقاقات كل الاطراف التي شاركت في عمليات تحرير الموصل، غربيين وأمريكان وإيرانيين وأتراك، حيث سيقفون في طابور استثمار ما جادوا به في هذه المعركة، فلا شيء بلا ثمن في عالم السياسة والعلاقات الدولية، وكل من هذه الاطراف لديها مصالح نشأت على الارض، أو كانت موجودة وتعززت بصورة أكبر.
وفي ظل استمرارية أمية الوعي السياسي وغياب المصلحة الوطنية التي يعانيها صناع القرار في العراق، فإن هذه الاطراف ستمارس الابتزاز السياسي لتحقيق مصالحها بما يضر المصلحة الوطنية.
إن الدمار الذي لحق بالانسان في الموصل، لا يمكن إعادة بنائه بسهولة بعد الان، وإن جعل الوطن كومضة معنوية في ضمير كل من فقد عزيزا وكرامة ومستقبلا مهمة صعبة وشاقة. كما انتشرت ظواهر الانتقام والثأر والخراب والفاقة والعوز ومخيمات اللجوء، وهذه كلها ظواهر استعباد للنفس البشرية. هذه الحال لن تتغير بسهولة، خاصة أن التقديرات تشير إلى أن إعادة البناء المادي يتطلب مليارات الدولارات، بينما خزينة الدولة خاوية والمانحين لهم شروط. وثمن البناء المعنوي ذو كلف أهم وأكبر، أولها وجوب عودة الهوية الوطنية إلى الصدارة.
باحث سياسي عراقي