هل ستولد دولة مهاباد الثانية في العراق؟
د. مثنى عبدالله
Sep 05, 2017
أيام قليلة تفصلنا عن الاستفتاء المزمع عقده لتحديد قرار الأكراد بإنشاء دولة لهم من عدمه، بعدما يقارب السبعين عاما على ولادة دولة مهاباد الكردية عام 1946، والتي لم تستمر في الوجود سوى أحد عشر شهرا.
حصل استفتاء عام 2005 لاغراض ابتزاز الحكم في بغداد، وكانت نسبة المؤيدين قرابة 98%. اليوم هنالك حراك سياسي كردي لشرعنة قيام دولة كردية، يقابله حراك عراقي ـ تركي ـ إيراني، بعدم السماح بتفعيل المسألة الكردية خارج إطار كيانات هذه الدول. وهم يعملون معا ضد أي سياسة انفصالية كردية، على الرغم من أن هذه الدول فشلت جميعها في تشكيل أيديولوجية وطنية يكون الأكراد جزءا منها في دولة وطنية. كما فشلوا أيضا في إبقاء القضية الكردية في إطار الدولة، وحلها بجهودهم الخاصة، ومنع أي مساع للانفصال.
الحراك الكردي اليوم قوي إلى درجة لا يمكنه فيها أن يبقى من دون التوصل إلى نهاية، والنهاية المنطقية لهذه العملية حسب ما يؤمنون به هي إنشاء دولة. وأيا ما كانت تصريحات بعض ساستهم الودية والسلمية، فإن قيام الدولة باتت مطروحة ومدفوعة بقوة مستمدة من القومية، وإعلان الاستقلال معناه ارتقاؤهم من مستوى العرق إلى مكانة الأمة، وأي أمة تسعى إلى قيام دولتها. هنا يُقال إن طرح موضوع الاستقلال، هو مجرد طموح تكتيكي للاحزاب والحركات السياسية الكردية الموجودة اليوم، مستندين إلى الابتزازات الكردية السابقة لحكومة بغداد في موضوع التمويل وكركوك، لكنهم ينسون المنطق العام لتطور العملية التاريخية، الذي يعني قيام الدولة. صحيح أن التواجد الكردي السياسي في العراق وتركيا كبير جدا، فمنهم رئيس الجمهورية ووزراء وبرلمانيون في العراق. وكذلك في تركيا منهم رئيس الوزراء ووزراء ونواب، لكن كل هذا لم يعد مقنعا لهم للبقاء في هذه الاطر، خاصة أن الجيل الكردي الشاب حاليا بدأ يرفض التعريف بنفسه كونه عراقيا أو سوريا أو تركيا. كما أنهم يمتلكون اليوم جيشا وأجهزة أمنية ومؤسسات دولة وحكما، ونفطا وسياحة واستثمارات وموارد أخرى، على الرغم من المشاكل المستعصية في أكثر من صعيد. وأن الظروف التي تمر بالمنطقة برأيهم هي أكثر إيجابية لهم من ظروف عام 1991.
يسأل البعض عن الموقف التركي في هذا الجانب ونقول، خشيت تركيا من مناطق حكم كردية في العراق وقبلوا بها في ما بعد. وقد وصل حجم التبادل التجاري مع الاكراد 4 مليارات دولار سنويا، ونصف الشركات العاملة في شمال العراق شركات تركية. الظاهر أنهم اليوم يرفضون إقامة مناطق حكم كردي في سوريا أيضا لكنهم سيقبلون بها في ما بعد كذلك. صحيح أننا دائما ما نذكر حالة العداء بين تركيا والاكراد، لكننا غالبا ما ننسى الموقف التركي اليوم الذي بات براغماتيا، خاصة مع فشل النزعة العثمانية الجديدة، التي كانت تطمح لجمع أكراد العراق وسوريا إلى الدولة التركية في دولة عثمانية جديدة، حيث حاولوا أن يرأسوا التيار الكردي في المنطقة لصالحهم لكنهم فشلوا.
وماذا عن الموقف الامريكي أيضا؟ دعونا نضع السؤال بالصيغة التالية: هل الامريكان يلعبون الورقة الكردية؟ أم أن الاكراد هم من يلعب الورقة الاقليمية لتحقيق أهدافهم؟ لقد استثمرت الولايات المتحدة هذه الورقة كثيرا، وقبل الأكراد بهذا الاستثمار طويلا دون عوائد لهم، إلى الحد الذي كانوا فيه بندقية على الكتف الامريكي زمنا طويلا. اليوم ترفض أمريكا الاستقلال الكردي حفاظا على الحدود الدولية المعروفة، لانها تدرك بأن ما بعد الاستقلال حروب وأزمات لا تنتهي. كما أنها تعلم بأن العزف الجديد على موضوع الاستقلال هو لعب كردي للتخلص من المشاكل الداخلية المستفحلة، ولكسب مساعدات واهتمام أقليمي ودولي لهم. لكن الرفض الامريكي ما زال لحد الان قولا لا فعلا، بينما لديهم القابلية الكبيرة على فرض الرأي والضغط عليهم للتخلي عن هذا الهدف. لكن يبدو أن الاستثمار في هذه القضية لم تستنفد أغراضها بعد.
هنا يجب ألا تغيب عن البال حسابات الموقف الايراني كذلك. فهذه الدولة لا ترغب أن يأتيها الصداع من أكرادها، في وقت هي في أمس الحاجة إلى هدوء الجبهة الداخلية، لتحقيق الأهداف المرجوة من انخراطها في ملفات إقليمية كبيرة. كما أنها ترى في العراق لقمة سائغة تريدها كاملة في الفم، وتحسب حسابات حلفائها في الحكم، في أن لا يبدو وكأن العراق يتمزق في ظل سلطتهم. فالايرانيون واثقون من أن انفصال الاكراد يعني لاحقا انفصال السنة الذي سيمحي طريقهم الحريري إلى سوريا فالبحر المتوسط. وقد حاولوا الضغط على حلفائهم في السليمانية لعرقلة الاستفتاء، لكن هؤلاء ينظرون إلى مصالحهم أيضا ويريدون جزءا من كعكة الدولة الكردية. لذا قد نرى لاحقا انخراطا عسكريا إيرانيا في شمال العراق، تحديدا محافظة السليمانية، لزعزعة الجهد الكردي لقيام الدولة الكردية.
هل إسرائيل بعيدة تماما عن هذا الملف؟ محال أن يكون ذلك لأن المسألة الكردية على قدر كبير من الاهمية لمصالحها في الشرق الاوسط، ولا يمكن أن تدعها تفلت من يدها كقاعدة مهمة لها للعمل ضد أعدائها في المنطقة، كما أنها مجسات بالغة الحساسية للتعامل مع أي تغيرات في الوضع السياسي في المحيط. وقد ستثمرت في العلاقة مع الاكراد كثيرا في المجالات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية. قد يكون إعلان الاستقلال أشبه بقرار حصار وعزلة كبيرة ضد الاكراد من قبل دول محيطة، وربما بعيدة أيضا، كما أنهم سيفقدون مزايا اقتصادية وعناصر حماية يوفرها لهم وجودهم كجزء من العراق. والاهم من كل ذلك هو هل يوجد في ذهن الساسة الاكراد مشروع استراتيجي لقيام الدولة؟ ما هي إجراءاتهم المستقبلية لمصالح أكثر من مليوني كردي موجود في بغداد، حين يصبحوا جالية لدولة أخرى؟ وماذا عن خط الأنبوب الاستراتيجي الناقل للنفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي الذي يمر بشمال العراق؟ وما مصير ما يسمى الاراضي المتنازع عليها، خاصة كركوك الغنية بالنفط وقدس أقداس الاكراد كما صرح بذلك مسعود بارزاني؟
يشير ساسة أكراد إلى أن هذه أمور يمكن التوصل إلى حل لها وهي ليست صعبة. صحيح ذلك لكن كم من الوقت سيمضي، وكم دماء ستجري، وكم موارد ستُهدر لحين الوصول إلى حل؟ لقد استقل جنوب السودان عن شماله فأوقف النفط المار عبر الانبوب في أراضيه، وانطلقت معارك كبرى بين الجنوب والشمال في آبيه، وحصلت مذابح بين الشماليين والجنوبيين في المناطق المختلطة، وطردت حكومة الشمال مئات الاف من العمال الجنوبيين من العمل لانهم باتوا بحاجة إلى إذن إقامة. كما ما زالت المشكلة قائمة في البوسنة بعد 20 عاما من تقسيم يوغسلافيا وكذلك في كوسوفو، وبين أرمينيا وأذربيجان. إذن فالتقسيم والحدود والاستقلال قد يشفي الغليل لكنه ليس الحل الحقيقي.
باحث سياسي عراقي