قبيلة المْحَلَّميَّة العربية والسريان
موفق نيسكو
[size=32]قبيلة المْحَلَّميَّة العربية والسريان[/size]
[size=32]المحلمية: قبيلة عربية عريقة، شيبانية بكرية، تسكن شمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا تعود بالنسب إلى محلّم بن ذهل بن شيبان أحد بطون قبيلة بكر بن وائل بن ربيعة المشهورة التي سكنت في الجزيرة العربية في تهامة اليمن واليمامة والبحرين، والتي يضرب المثل فيها في عوف بن محلّم فيقال: " لا حُرّ بواد عوف".
ومعلوم أن بطوناً كثيرة من قبيلة بني بكر وخاصة الشيبانيين وأبناء عمومتهم التغلبيين اعتنقوا المسيحية منذ القرن الخامس الميلادي عندما انتشرت في شرق الجزيرة العربية التي كانت تسمى بلاد دلمون (البحرين حالياً)، وكانت الأسقفيات في منطقة الخليج تابعة لجاثليق كنيسة المشرق الخاضع لبطريرك الكنيسة الأنطاكية السريانية، وأصبحت قطر (بيث قطراي بالسريانية) أسقفية مسيحية سنة 225م،ثم ضُمَّت إليها كنيستا نجران واليمامة، وكانت جدر (أُم قيس) كرسياً أسقفياً سنة 307م، وقام الناسك عبد يشوع وأصله من ميسان في جنوب العراق بتأسيس دير في جنوب قطر قرب اليمامة باسم دير مار توما، زاره سنة 390م يونان أحد تلاميذ دير أوجين قرب طور عبدين، فوجده آهلا بمئتي راهب وأقام فيه مدة يقضي الصلوات بالسريانية (أخبار الشهداء والقديسين طبعة بيجان 1: 486 و487)، ونجد ذكراً للأساقفة في جزيرة سماهيج (مشمهيج بالسريانية) بين البحرين وعُمان، كالأسقف باطاي سنة 410م، وسرجيوس سنة 576م، أما جزيرة داران (داراي بالسرياني)، فكان بولس أسقفاً عليها سنة 410م، وكان للسريان النساطرة أيضاً فيما بعد دوراً في مسيحية الجزيرة العربية، حيث عقد الجاثليق كوركيس مجمعاً في جزيرة دارين سنة 676م، سنَّ فيه تسعة عشر قانوناً، وتم إنشاء أديرة، كدير كعب قرب صفوان أقام فيه الخليفة علي بن أبي طالب ليلة، ودير عمرو في جبال طي، ودير سعد بين غطفان والشام (راجع اسماء الأديرة، معجم البلدان)، وبدأت المسيحية بين العرب بالزوال من البحرين سنة 623م تقريباً عندما اعتنق الإسلام أمير البحرين المنذر بن ساوى الذي كان البكريون يخضعون له، ومثله فعل الجارود بن عمر المعلى سيد بني قيس وابن دريمكة بنت رويم الشيبانية الذي كان مسيحياً وفرض هيمنته على البكريين، أمَّا الذين بقوا مسيحيين من بني بكر فقد هاجروا إلى الشمال في العراق والشام.
والمهم إن كثيراً من أبناء قبيلة بني بكر وأفخاذها من شيبان وحنيفة ومحلّم وغيرهم كانوا مسيحيين، وكانت بطون من البكريين قد نزحت إلى الشمال على إثر حرب البسوس التي قامت بينهم وبين أبناء عمومتهم التغلبيين والتي انتهت سنة 525م تقريباً، وسكنوا جنوب العراق بين منطقة البصرة والكوفة (منطقة خَفّان)، وكانت أسقفية الحيرة السريانية وأسقفها شمعون سنة 424م تشمل بني بكر (أغناطيوس أفرام الأول برصوم، منارة أنطاكية السريانية ص 86).
ومن البكريين المسيحيين أبطال معركة ذي قار سنة 605م تقريباً، ومنهم هاني بن مسعود الشيباني وابنه قبيصة الذي مات بالكوفة مسيحياً (ابن دريد الاشتقاق ص 359)، والشاعر عبد المسيح بن عسلة الشيباني وغيرهم، وأول من اعتنق الإسلام من مشاهير بني شيبان هو المثنى بن حارثة الشيباني، ومع هذا بقيت بطون من شيبان على مسيحيتهم واشتركوا في واقعة ذات السلاسل بقيادة المثنى في عند كاظمة على مسيرة يومين من البصرة (دائرة المعرف الإسلامية مج4 ص45)، كما ارتد قسم من بني حنيفة البكرية عن الإسلام.
هاجر وسكن قسم من البكريين والشيبانيين مدينة تكريت التي كانت مقراً لمفريانية السريان الأرثوذكس واشتهر من مفارنتها مار أحوادمة (+575م) أسقف باعربايا أي العرب الرحل، ومن سكنة تكريت البكريين، البو عبيد الذين سكنوا قرية البويضة، والبو عجيل أو عجْل، وأول من مال من البو عجيل إلى الإسلام رئيسهم سويد بن قطبة العجلي (عباس العزاوي، عشائر العراق ج1 ص 48)، .وأنشأ هذان الفخذان كنيستين في تكريت الواحدة باسم كنيسة البو عبيد قرب قرية البويضة والأخرى جنوب الأولى باسم كنيسة البو عجيل التي يعتقد أنها كانت دير مار يوحنا الذي ذكره الحموي، وسكن بني بكربجوار القلعة المعروفة بتكريت حالياً، وهناك رواية ذكرها ياقوت الحموي سواء صحت أم لا، لكنها تُبيّن مدى ارتباط البكريين بتكريت، وهي أن اسم تكريت أصلاً هو اسم ابنة بكر بن وائل، علماً أن اسم تكريت في المصادر السريانية هو سرياني معناه التجارة (تجريتو)، وقد أصبحت تكريت منذ سنة 628م أهم مركز للكنيسة السريانية ليس في العراق فحسب بل في الشرق حيث أصبحت مقراً لمفريانية الشرق السريانية، وكل قبائل تكريت طغى عليها اسم التكريتي، والانتساب إلى مدينة تكريت ظل يتردد ذكره في معظم أسمائهم ولم يربطوا نسبهم بنسب آخر، وطبقاً لما ذكره الأصطخري وابن حوقل فسكان تكريت كان أغلبهم مسيحيين إلى سنة 979م، ومن القرن الحادي عشر الميلادي بدأت هجرة مسيحييّ تكريت ومنهم الشيبانيون إلى الموصل وأطرافها، وإلى سوريا وتركيا، وبخاصة إلى بخديدا (قره قوش) وبرطلة وقريتي بعشيقة وبحزاني، (موسوعة تكريت ج2 ص122،126،130، ج3 ص300). ولا يزال إلى اليوم سكان تكريت وبعض القرى المسيحية السريانية حول الموصل كبعشيقة وبحزاني وميركي (دير متى)، يستعملون نفس اللهجة التي يتكلم بها محلّمية سوريا وتركيا، وتسمى لهجة الكشكشة، لكثرة استعمال حرف الكاف فيها، بينما سميت لهجة أبناء عمومتهم الشيبانيين أي التغالبة بالفشفشة لكثرة استعمال الفاء، وهناك شواهد تدل على أن قسماً من الشيبانيين كانوا مسيحيين، فها هو أحد أبناء مرة الشيباني يرثي أخاه المدفون قرب دير دانيال (الخنافس) قرب الموصل قائلاً:
بقربك يا دير الخنافس حفرة بها ماجد رحب الذراع كريم
إن محلّمية شرق سوريا وتركيا قد رحلوا بعد حرب البسوس وسكن قسم منهم في بداية الأمر في الجنوب وتحالفوا مع شرحبيل بن الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار أمير كندة الذي تحالف مع الإمبراطور البيزنطي انستاسيوس سنة 503م في صد خطر اللخميين، ويذكر أن المسيحية كانت بارزة في قبيلة كندة وفي ابني حجر آكل المرار، عمر المقصور ومعاوية الجون، ومنهم عمرو بن معد أبي كرب بن الحارث بن عمرو المقصور وعمته هند بنت الحارث زوجة المنذر الثالث ملك الحيرة صاحبة الدير المشهور باسمها في الحيرة، أما ابن آكل المرار الآخر معاوية جون الكندي فكان أميراً على اليمامة التي كان معظم سكانها مسيحيين عند ظهور الإسلام (جواد علي المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج10 ص291)، و كان يسكنها بني حنيفة من قبيلة بكر برئاسة المسيحي هوذة بن علي سيد بني حنيفة والذي أطلق أسرى بني تميم بمناسبة عيد القيامة، فقال الشاعر الأعشى يمدح هوذة:
بهم يقرب يوم الفصح ضاحية يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
والجدير بالذكر أن حجر آكل المرار هو أصلاً شقيق ثور من أُمهِ، وثور هو حفيد محلّم بن ذهل التي تنتمي إليه قبائل المحلّمية.
وخلَف هوذة مسيلمة الذي لقَّب نفسه بالرحمن (بالسريانية مرحمونو)، كما أن طْلق بن علي بن طْلق بن عمرو السحيمي الحنفي وهو من سادة بني حنيفة باليمامة كان مسيحياً، وقد أخبر طلْق رسول الإسلام محمداً عندما أسلم أن لهم كنيسة باليمامة يديرها راهب من بني طي، وأُخذت هذه الكنيسة فيما بعد وأقيم مسجداً محلها، وهناك حديث مذكور في سنن النسائي والطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 357 بهذا الخصوص.
ثم استقر البكريون في مناطق ديار بكر وماردين وطور عبدين في الشمال، ويبدو أن هجرتهم قد سبقت أبناء عمومتهم من التغلبيين إلى هناك إذ نرى الشاعر المسيحي التغلبي الأخطل يقول:
تربعنا الجزيرة بعد قيس فأضحت وهي من قيس قفار
تسامى ماردون به الثريا فأيدي الناس دونهما قصار
والهجرة الرئيسة الثانية للبكريين كانت منذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، بعد اشتراك عدد من المحلّميين المسلمين بحركة الخوارج بقيادة الضحاك بين قيس المحلّمي يسانده مسلمو مذهب الصفرية، وحارب الأمويين سنة 745م في نواحي الموصل التي كانت تحت حكم والي شيباني يدعى القطران بن أكمة، ثم قُتل الضحاك في كفرتوثا فخلَفه شيبان اليشكري ثم ميزيد بن زائدة الشيباني سنة 800 م.
وبمرور الزمن هاجر قسم من التكارتة للسكن بجوار إخوانهم المحلمية في سوريا وتركيا،وعدَّ البعض أن مسلمي بني شيبان في الموصل وأطرافها ينتسبون إلى الهلاليين، وهو نسب غير صحيح، فبني بكر الذين اعتنقوا الإسلام وبقوا في تكريت اعتنقوا المذهب الشافعي جميعهم أسوة بمسلمي تكريت الذين بقوا شافعية إلى بداية القرن العشرين (رحلة المنشئ البغدادي ص137)، وهذا هو سبب انتشار المذهب الشافعي بين محلّمية سوريا وتركيا حيث هاجر قسم من التكارتة على مر الزمن للسكن بجوار إخوانهم هناك.
أطلق السريان على منطقة سكن المحلّمية في الجهة الجنوبية من طور عبدين (بيت محلّم)، وكانت لهم فيها أكثر من خمسمئة قرية أكبرها قرى، أستل، شور صفح، دير أوسيبينا، انشاي، كفر شمع، كفراحور، كفر سلط، وغيرها، مع كنائس كثيرة مثل كنيسة مار جرجس التي كانت عامرة سنة 1457م ودير مار يعقوب الذي كان عامراً سنة 1583م في قرية كفر شمع، وكنيسة مار ملكي والقديسة شموني في أستل، وفي جامع مدينة أوسيبينا يوجد آثار مذبح كنيسة وبشرقه بناء يظهر أنه كان ديراً أو كنيسة، ويعتقد أن اسم أوسيبينا هو لأحد تلاميذ دير أوجين، وكنيسة مار جرجس في قرية كفر عرب كانت عامرة سنة 1461م، وغيرها، (الأب متري هاجو أثناسيو، موسوعة بطريركية أنطاكية مج2 ص 628–629)، .وعندما بدأ إخوان المحلّمية من شيبان تكريت بالهجرة إليهم سكنوا إلى جانب إخوتهم في، حران، كفرتوثا، ديار بكر، أرزن، نصيبين، الرها، الرقة، رأس العين، وملطية، وغيرها، وشيدوا لهم في مدينة كفر توتا كنيسة باسم مار توما وفي الرقة كنيسة باسم كنيسة التكارتة، كما شيدوا كنائس أخرى باسم مار زينا، وغيرها، ومن أشهر شيبانيّ بنو بكر الذين هاجروا من تكريت إلى مناطق المحلّمية هي أسرة آل أبي عمران بزعامة أخيهم الأكبر الشيخ أبو سالم الذين هاجروا سنة 991م وسكنوا ملطية وشيدوا عدة كنائس في ملطية وضواحيها، واشتهروا بالثراء والكرم والتصدق على الفقراء، ولمكانتهم المرموقة طلب منهم الإمبراطور البيزنطي باسيليوس الثاني (976–1025م) ضرب دراهم للدولة الرومانية، ومن مآثرهم أن أبي سالم افتدى من الأتراك خمسة عشر ألف أسيراً بخمسة وسبعين ألف دينار.
اعتنق أغلب محلّمية شرق تركيا وسوريا الإسلام على أربع مراحل، الأولى في الفتوحات الأولى، والثانية أثناء الحروب الصليبية، والثالثة أثناء الغزو المغولي، والرابعة أيام الدولة العثمانية، وهناك شواهد كثيرة تثبت مسيحيتهم، فها هو جرير يُعيَّر الفرزدق بحدراء بنت زريق بن بسطام الشيباني المسيحي قائلاً:
وما عدلت ذات الصليب ظعينة عتيبة والردفان منها وحاجب
ويمدح الشاعر عبدالله بن المخارق الملقَّب بنابغة بني شيبان أو ابن النصرانية الخليفة عبد الملك بن مروان قائلاً:
يظل يتلو بالإنجيل يدرسه من خشية الله قلبه طفح
ويقول البطريرك أفرام الأول برصوم: إن القسم الأخير من قبائل المحلّمية مثل استل والراشدية والمكاشنية وصورا والأحمدي ورشمل ولاشتية اعتنقوا الإسلام سنة (1583 أو 1609م) في عهد بطريرك طور عبدين سهدو المذياتي وذلك بسبب كثرة المظالم والضيقات عليهم من قِبل الأتراك، وإن بعض الشيوخ الثقات من قبائل المحلّمية أخبروا البطريرك أفرام أن مسألة إسلام قبيلة المحلّمية لا يرتقي إلى أكثر من ثلاثمئة سنة (البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم، تاريخ طور عبدين ص352–353)، .وهناك رواية شعبية غير صحيحة يتناقلها الناس تقول إن سبب اعتناقهم الإسلام هو ضغط بطريرك ماردين إسماعيل المارديني (1333–1365م) عليهم كثيراً بعدم الإفطار خلال مدة الصوم، وهي رواية غير صحيحة لفَّقَها أعداء البطريرك إسماعيل نكاية به، إذ ليس من المعقول أن تتحول قبيلة بأكملها إلى الإسلام بسبب خلافها مع بطريرك أو مطران، فجميع المختلفين مع رؤسائهم في تاريخ المسيحية يتحولون إلى طائفة مسيحية أخرى، أو قد يتحول أفراد محدودين فقط إلى ديانة أخرى في حالات أخرى.
بقيت عائلات قليلة من المحلّمية مسيحية سريانية إلى اليوم، ويقول السير مارك سايكس (1879–1919م): إن المحلّمية عرب ويعيش بينهم أكراد ولا تزال بعض الأسر منهم مسيحيين.
والجدير بالذكر أن العوائل المسيحية على مر التاريخ لا تحمل أسماء وألقاب عشائرها القديمة، بل أسماء لا تتجاوز جدها الخامس في أغلب الأحيان، أو اسم المدينة أو المهنة.. الخ، ولدينا على الأقل سبعة أسماء من مطارنة أسقفية التغالبة التي تأسست في القرن السابع والذين يُسمَّون أساقفة العرب، ولكن لا يوجد بينهم من يحمل لقب التغلبي، فضلاً عن أسماء أساقفة مثل: خَلف، عثمان، شهاب، عربي، يزيد، إسماعيل، وغيرهم، وقسم من هؤلاء كانوا من الجزيرة الفراتية، ومن المعروف أن عرب الحيرة المسيحيين سموا بالعباد وكانوا من مختلف القبائل . (جواد علي المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج10 ص278).
لذلك فالسريان المحلّميين لم يكونوا يتسمون بالمحلّمية، وهذا هو سبب عدم وجود رجال دين أو أدباء عُرفوا بالمحلّمي في تاريخ الكنيسة السريانية، ولكن بدون أدنى شك فإن كثيراً ممن ظهروا في هذه المنطقة من رجال الكنيسة السريانية يحتمل أنهم كانوا من قبائل المحلّمية، فهناك كثير من الأساقفة والكهنة كانوا من مناطق المحلّمية مثل المفريان ديونيسيوس الثاني صليبا الكفر سلطي (1223–1231م)، ومفريان طور عبدين باسليوس شمعون الأول بن شولج الكفر شمعي (1549–1555م) الذي كان من قرية كفر شمع وترَّهب في دير مار يعقوب في نفس القرية، والخطاط الربان شمعون الكفر سلطي سنة 1218م، وغيرهم.
وحتى المسلمون أنفسهم من المحلّمية فذكرهم باسم المحلّمية قليل تاريخياً إذا ما قورن بالعشائر العربية المسلمة الأخرى، ويبدو أنهم بدؤوا يستعملون هذا الاسم بكثرة في القرنين الأخيرين على وجه التحديد، علماً أن اسم المحلّمية قد أُطلق على قبائل بكر شرق سوريا وتركيا فقط، بينما لا نجد في الموصل أثراً ملحوظاً لاسم عشيرة أو قرية باسم المحلّمية مع وجود الأسماء الأخرى لهذه القبيلة كالبكريين والشيبانيين والقيسيين والراشدين وغيرهم.
وشكراً
موفق نيسكو[/size]