[rtl]يصرخ بصوت مرتعد: حامد حامد.[/rtl]
[rtl]يلتفت حامد صوب أبيه ويداه ممسكتان ببعض تراب الأرض النَّدي بالفرح: نعم يا أبي ؟[/rtl]
[rtl]يقول له بغضب: خذ بهيَّة واذهبا إلى البيت حالاً.[/rtl]
[rtl]- لكِنَّنا لم ننهِ حفر التّرع الصَّغيرة بعد.[/rtl]
[rtl]تعلو نبرة صوت الرَّجل: دعا العمل.. هيَّا انصرفا.[/rtl]
[rtl]نظر حامد بوجه أبيه فَغَمَّ عليه الوجهُ، ظنَّه للوهلة الأولى وجهَ نمر أو ضبع مفترس كذاك الذي يراه في الصُّوَرِ، هاجمه الخوف بوجه أبيه فجأة فسأله: أأصحب أحمد معنا؟[/rtl]
[rtl]أحتد والده: لاشأن لك بأحمد، هيا اذهبا قبل أنْ أفتح رأسك بفأسي هذه.[/rtl]
[rtl]ألقى حامد التُّراب من يديه متهيِّئاً للانطلاق هروبا من والده، لكِنَّ عينيه تعلَّقت بعيني أحمد المسالمتين، الباسمتين، البريئتين، وحب الحياة يلمع فيهما، وهيهات هيهات أن يرتوي المحبُ من عيني حبيبه. صراخ الأب يعلو، وحامد يهرب باتجاه الخارج بينما أسرعتْ بهيَّة بالفرار راكضة إلى البيت. وقف أحمد يلوِّح بيده الصَّغيرة لحامد، وكأنَّما يطلب منه البقاء معه.. يصرخ أبوه: أما زلت هنا أيَّها الوغد؟[/rtl]
[rtl]سأل حامد نفسه، وهو يفلت من نظرات أبيه مختبئاً خلف كوم من القشِّ خارج الحقل: لماذا يريد أبي أن ينفرد بأحمد؟ آه لو أني أعرف. للوهلة الأولى ظنَّ حامد أنَّه في حلم مزعج، يريد الخروج منه قبل أن يتوقَّف قلبه، لكنَّه فشل في ذلك، وهو يراقب عن كثب ما يحدُّث قرب السَّاقية. تمشى نظره بحذر من خلال كوم القشِّ، فخُيِّلَ إليه أنَّ أباه يزداد طولاً وعرضاً، بينما راح أحمد يتضاءل أمامه كأرنب مذعور، والأب يناديه: اقترب يا أحمد، تعال سأغسل لك وجهك.[/rtl]
[rtl]يردُّ الصَّغير ببراءة: غسلت وجهي في البيت يا أبي.[/rtl]
[rtl]يدعوه ثانية بإصرار: اقترب سأغسله لك مرَّة أخرى.[/rtl]
[rtl]مشى أحمد باتجاه أبيه ببطء شديد، وعيناه تتفحَّصان المكان الخالي من البشر إلا منه وأبيه علَّه يجد من ينقذه من غسل الوجه هذا، فهو لا يحبُّ الماء وعندما كانت أمه تدخله للاستحمام، كان يملأ البيت صراخاً وبكاء منذ أن كان وليدا.[/rtl]
[rtl]لم يجد أحمد حوله سوى الأشجار، ويدي أبيه، والعصافير التي راحت تهجر أعشاشها، وصوت البوم ينعق في الحقول المجاورة . أطبق حامد بكفيه على القش دون أن يلفت انتباهه مرور أفعى صغيرة بالقرب من رجله اليسرى، ربَّما جاءت لتكون من الشَّاهدين .وصل أحمد إلى السَّاقية حيث يقف أبوه الذي سرعان ما أمسك برأسه الصَّغير، وراح يغمس وجهه في الماء بعنف ،وأحمد يرجوه خائفاً: أرجوك يا أبي لا أريد غسل وجهي ساعدني يا أبي أرجوك. ولكنَّ الأب يزداد ضغطاً فوق رأس أحمد، ويدخله في الماء كلَّما حاول إخراجه منه متوسلا بعطف أبيه. يزداد عزم الأب وقوَّته في عملية غسل الوجه الغريبة هذه، بينما راحت رجلا أحمد تحاولان الطَّيران في الهواء، كأنَّهما تريدان أن تصبحا جناحي نسر ينقذان صاحبهما من الموت، ولكن هل يصبح اللا معقول معقولا؟[/rtl]
[rtl]لحظات مخيفة، رهيبة عاشها حامد بكلِّ تفاصيلها المؤلمة التي ستظلُّ تعصف في قلبه، ووجدانه مدى العمر، ل يدري كيف سيعيش بعدها، أو يصفها، قد يكون الموت أرحم منها به ألف مرَّة. ترك حامد لنفسه فسحةً من أملٍ اختطفها من الخيال محاولا إيهامَها بكذب ما يرى، كاد يصدِّق ما افتراه على نفسه، فربَّما كان يعيش حلماً، أو يرزح تحت وطأة كابوس مزعج ألمَّ به سهوا في لحظة خوف من شيء ما، لكِنَّه سرعان ما أحس باشتداد وطأة الرُّعب في إيلامه، وهي تنقضُّ على قلبه.. تفترسه.. تمتصُّ دماءه من شراينه الدَّقيقة التي كادتْ تنفجر من شدَّة الضَّغط فيها. أحسَّ بالغليان في داخله، بينما راحت حرارة جسد أحمد تتلاشى متَّحدة بحرارة المكان، وتوقَّفت رجلاه عن محاولة الطَّيران الفاشلة.[/rtl]
[rtl]هدأ النّسرُ الصَّغير على حافة السَّاقية بين يدي والده، فألقى به فوق التُّراب جثَّة هامدة. شعر أبو حامد بنشوة عارمة وهو يقف قرب رأس صغيره الذي بدا كعصفور ميتٍ بلَّلَ الماءُ رأسَه. فرك حامدٌ عينيه، بينما باعد الذُهول بين شفتيه، وهو يرى أباه يُخرج من جيبه علبة سجائره، ويتناول منها لفافة من التِّبغ يشعلها بعود ثقاب، يلقيه قبل إطفائه بالقرب من جثَّة أحمد الممدَّدة فوق تراب الحقل المبلل بماء السَّاقية، وعيناه تنظران إلى القتيل، وهو يتنفَّس الصَّعداء. يا لها من طريقة بشعة لغسل الوجه لم يسمع بها حامد من قبل. ركض مذعورا يتلفَّت وراءه خشية أن يكون والده قد شعر بوجوده، فيلحق به ليغسل له وجهه بماء السَّاقية المشئومة. وعندما سمعتْ فاطمة صوت حامد يخترق الفضاء عويلاً، وهو يقتحم باب البيت مستنجدا بها، وقع الخبر عليها صاعقا، أحرق في داخلها الأخضر واليابس، ركضتْ كالمجنونةِ بل أشدَّ جنوناً من أي مجنون على وجه الأرض، مسرعةً نحو الحقل، تقطع المسافة بدقائق معدودة، والجيران يلحقون بها مذهولين.[/rtl]
[rtl]وصل الموكب النَّائحُ الباكي إلى مدخل الحقل لاهثاً بالتَّعب والحزن والخوف، بينما راحتْ الأمومة تتفجَّر بفاطمة شظايا متناثرة من الصُّراخ والعويل، وأبو حامد يطفيء عقب لفافة تبغه بالقرب من رأس أحمد.[/rtl]
[rtl]نظر إليهم بهدوء مقزِّزٍ وهو يقول: أحمد ولدي، وقد قتلته بيدي هذه، من كان له منكم شيءٌ معي فليتقدَّمْ وليأخذه.[/rtl]
[rtl]خلعتْ فاطمة غطاء رأسها، شقَّت ثيابها جاثية فوق جثَّة صغيرها، حملتها بين ذراعيها والدُّموع قد تحجَّرت بين أهدابها، صرخت بصوت حزين اهتزَّت له أرجاء الحقل ألماً: زغردي يا سنبلة.. لقد أخذ لك أبو حامد بثأر حسين.[/rtl]