مؤتمر الاستجداء الدولي من أجل الفاسدين في العراق
د. مثنى عبدالله
Feb 20, 2018
للفترة من 12 – 14 من الشهر الجاري عُقد في الكويت مؤتمر إعادة إعمار العراق. كان الهدف المعلن هو حشد الدعم الدولي للمشاركة بالنهوض بالواقع المرير الذي خلفته العمليات العسكرية، التي استهدفت إعادة السيطرة على المدن التي استولى عليها تنظيم «الدولة». لكن السؤال الأهم الذي طُرح في أروقة المؤتمر همسا وعلنا بعض المرات هو، هل إن المؤتمر فرصة جديدة لتغذية جيوب الفاسدين في السلطة العراقية وأحزابها؟ أم أنه فرصة حقيقية للنهوض بالعراق؟
من المؤسف حقا أن يكون هنالك مؤتمر لمانحين دوليين، يُعقد من أجل دولة تُعتبر من أغنى الدول على الكرة الأرضية، فقد اجتمعت فيها كل عناصر الثروة من نفط وغاز ونهرين عظيمين، وثروة بشرية فيها الشباب يشكلون نسبة عالية من مجموع السكان. وقد كانت يوما ما تفتح خزائنها للأشقاء والأصدقاء في إفريقيا ودول العالم الثالث الأخرى، حتى ما زالت مساعداتها المادية ماثلة للعيان في موريتانيا واليمن ومصر والأردن وجيبوتي والصومال وغيرها. لكن آفة الأعوان الفاسدين الذين أتى بهم الغزاة على رأس السلطة في البلاد، لم تٌبقِ فيها حجرا على حجر، وتحولوا بين ليلة وضحاها من أشخاص يعيشون على المعونات الاجتماعية التي كانت تقدمها لهم دول اللجوء، إلى رجال أعمال يمتلكون كل شيء. وهذا هو السبب الحقيقي الذي دفع 76 دولة ومنظمة إقليمية ودولية، و511 صندوقا ومؤسسة مالية، و107 منظمات غير حكومية، و1850 ممثلا من القطاع الخاص، بألا يجودوا للعراق في هذا المؤتمر سوى بـ33 مليار دولار، تبين أن القسط الأكبر منها قروض تضاف الى المديونية التي ينوء تحت ثقلها العراق، بل حتى هذا المبلغ هو مجرد تعهدات قد تفي بها الدول وقد تخل بتعهداتها، كما حدث في مؤتمرات المانحين التي عقدت من أجل العراق في باريس ومدريد وأمريكا في سنين خلت، ولم تحصل بغداد على شيء منها إلا النزر القليل.
لقد ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على الدول الدائنة للعراق لإطفاء ديونه بعد الغزو، لتحسين صورتها القبيحة وفعلها اللاقانوني أمام العراقيين، وتم إطفاء نسبة 90 في المئة من تلك الديون. كما رُفع الحصار الاقتصادي عنه وفُتحت كل أبواب التجارة معه. لكن العراقيين اكتشفوا أن مفردات البطاقة التموينية عالية الجودة، التي كانوا يحصلون عليها تحت الحصار قد فُقدت، وأن الخدمات الصحية اندثرت، وأن الادوية والمستلزمات الطبية من المناشئ العالمية استبدلت بالصيني والهندي والإيراني، التي لم تكن معروفة لنا إطلاقا. وأن الماء والكهرباء والخدمات الأخرى التي تمت إعادة إعمارها بعد عدوان عام 1991 في ستة أشهر، لم تستطع كل الدول العظمى التي احتلت العراق أن تعيدها إلى سابق طاقتها، وما زال العراقيون حتى اليوم يعانون من شحة الماء والكهرباء، وتعطل الخدمات الأساسية الأخرى. وقد لا تعجب البعض هذه المقارنة، لكنها صوت الشارع العراقي، الذي من يتابع قنواته الفضائية يجد فيها حالة المقارنة ما بين اليوم والأمس، هي مقياس الحياة اليومية للناس. فالتغيير يعني الانتقال من حالة الى أخرى متقدمة عما سبقتها، لكن يقينا لا أحد يستطيع أن يقول بأن الغزو والاحتلال هما حالة تغيير، لان ما حصل في العراق هو فعل بعيد كل البعد عن حالة التغيير.
يقول بعض المسؤولين العراقيين بأن حاجة العراق الفعلية لإعادة الإعمار تبلغ ما يقارب الـ88 مليار دولار، بينما يقول الخبراء بأنه بحاجة الى أكثر من 300 مليار دولار. وعندما تقول منظمة الشفافية الدولية بأن العراق واحد من أفسد عشر دول في العالم، ويقول البنك الدولي بأن 600 مليار دولار سُرقت من خزينة الدولة في عهد رئيس الوزراء السابق، وتقول اللجنة المالية في البرلمان العراقي إنه خسر 360 مليار دولار بسبب عمليات غسيل أموال وفساد، أي نحن أمام مبلغ مهول يبلغ ما يقارب 1000 مليار دولار، سُرق، فهل توجد دولة قادرة على المجازفة في تقديم مُنحة للعراق بعد الآن؟ وهل يستطيع سياسي أوروبي أن يُجازف بمستقبله السياسي فيمنح الضرائب التي يدفعها مواطنوه الى جيوب السراق والفاسدين؟ صحيح أن العدد الكبير من الدول والمنظمات والقطاع الخاص قد شارك في المؤتمر، لكن الكثير منهم شاركوا لحسابات سياسية واقتصادية أخرى تخصهم ولا تخص العراق. كما أن البعض منهم حضر لمعرفة ما يمكن أن يقدمه الجانب العراقي من ضمانات وإجراءات تساعد على وصول الأموال الى اتجاهاتها الصحيحة. ولان الفساد خيّم على المؤتمر، وتبين أن إجراءات الحكومة غير فعالة، فقد رفض وتريث الكثير في اتخاذ قرار المساهمة في إعمار البلد. لذا جاءت النتائج مخيبة لآمال الكثير من الخبراء والمختصين. وحدها الحكومة هي من اعتبرت الـ33 مليار دولار نصرا مؤزرا لها، واعترافا دوليا بسلطتها. ويمكن فهم ذلك في إطار محاولة استثمار كل شيء حتى لو كان خاسرا في الحملة الانتخابية الجارية الآن.
قد يرى البعض أن الـ33 مليار دولار تعني شيئا كبيرا. نعم يمكن أن تكون كذلك لبلد ليس بمساحة وتعداد نفوس العراق، وبمقدار الضرر والتدمير الذي أتى على كل شيء فيه. لقد دُمرت الموصل عن بكرة أبيها، والانبار وصلاح الدين وديالى، وتعاني محافظاته الوسطى والجنوبية من شحة مياه الزراعة، بعد أن تحول النهران العظيمان الى مجرد جداول صغيرة لا تغطي مياهها حاجة الشرب. كما بلغ عدد النازحين عن ديارهم المدمرة مليونين ونصف المليون إنسان. ونسبة العيش تحت خط الفقر وصلت في عموم العراق إلى 23 في المئة، وفي المحافظات المدمرة الى نسبة 40 في المئة.
إن الفرص الاستثمارية الهائلة التي توجد في البلد، خصوصا في مجال البنية التحتية، وحالة الكساد العالمي الذي تعانيه الدول والشركات، كان يفترض أن تكونا دافعا قويا للدخول للساحة العراقية، لكن العكس هو الذي يحصل اليوم. والسبب في ذلك هو إن الظروف السياسية والأمنية والتشريعية كلها طاردة للاستثمار. فتعاظم الدور الايراني في العراق يتعارض ومصالح دول أخرى تريد المساهمة في الإعمار، والانفلات الأمني والابتزاز اللذان تعرضت لهما شركات كثيرة دفع غيرها للإحجام عن دخول هذه السوق. كما أن التشريعات القانونية التي تحمي المستثمر غير كافية لصعوبة التطبيق على أرض الواقع. وإزاء هذا الواقع المرير فإن الحل يكمن في عدة اتجاهات. أولا، قيام الدول المانحة والمستثمرة بتنفيذ المشاريع بنفسها من خلال شركاتها الخاصة. وقد علقت تلك الدول على هذه الصيغة بأنها أيضا غير مضمونة، لأن العصابات التي تتكلم باسم الدولة والاحزاب ستساومها وتبتز موظفيها الأجانب. أما الخيار الثاني فهو إنشاء حكومة إلكترونية تتيح إمكانية المراقبة الآنية للإيرادات والنفقات، وسترفض السلطات هذه الصيغة بحجة الانتقاص من السيادة. أما الخيار الأخير، فهو عودة الأمم المتحدة الى برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء، وأن تتولى هي بنفسها السيطرة على الاموال العراقية من مبيعات النفط، وإنفاقها في الجوانب الخدمية والتطويرية الزراعية والصناعية.
باحث سياسي عراقي