المسألة الكردية
ت آرا دمبكجيان
[size=32]المسألة الكردية[/size]
تعتبر المسألة الكردية واحدة من أصعب المعضلات السياسية البعيدة عن إدراك الشخص، ناهيك عن حلِّها.
يتوزع الأكراد على امتداد الشرق الأوسط مسببين المشاكل للدول المضيفة و في المقابل توثر عليهم حكومات هذه الدول، سلبا او ايجابا، كلٌّ حسب سياستها الداخلية و الخارجية، تلك السياسة المرتبطة برغبة الدول الجارة.
يعيش اربعون مليونا من الأكراد في تركيا، العراق، ايران، سوريا و ارمينيا، و يكوِّنون حوالي ثلث سكان تركيا، او 25 مليونا من 80 مليونا من اجمالي السكان فيها. في الوقت الذي يعيش 8 ملايين كوردي في ايران، و يتوزع الباقون على الدول الأخرى. و الأكراد من الأقوام الهند-أوروبية مثل الايرانيين و الأرمن، في الوقت الذي ينحدر بقية الأتراك الى الغزاة البرابرة الذين قدموا من سهوب آسيا الوسطى و أسقطوا عاصمة الدولة العباسية ثم احتلت جموعهم الأناضول و القسطنطينية و آسيا الصغرى، اي الشرق الأدنى.
كانت ارمينيا الدولة الوحيدة التي اعترفت بالحقوق القومية و الثقافية للأكراد في خلال القرن الماضي، أي في العهد السوفييتي و ثم الأستقلال بعد سقوط الدولة السوفييتية.
و حسب ما تذكر كتب التاريخ، لم ينعم الأكراد أبداً بدولة كردية ذات سيادة، على الرغم من طموحهم القومي في الحصول على دولة مستقلة و كفاحهم المستمر من اجلها. هناك عدة اسباب لهذه المسألة لعل اهمها ان الجموع الكوردية عاشت تحت أنظمة مختلفة تفصلها مسافات جغرافية عن بعضها البعض فخيَّم التأثير السلبي لهذا السبب على طموحاتهم الذي فرَّقهم و أبعدهم عن هدفهم المشترك و المرتجى.
استخدم السلاطين العثمانيون الأكراد ضد الأرمن فألَّفوا منهم "الكتائب الحميدية" و التي كانت تستلم الليرات الذهبية من السلطان مغلَّفة بفتاوي شيخ الأسلام لقتل الأرمن. كان الهدف الرئيس لتشكيل الكتائب الحميدية إبادة الأرمن في الأراضي الأرمنية التي يقيمون عليها. و لم يختلف الحال بعد الثورة العثمانية و الإطاحة بالسلطان الأحمر، عبد الحميد الثاني، فانتهجت الحكومة الأتحادية بقيادة حزب الأتحاد و الترقي النهج السابق، بل وصل الأمر الى القيام بجريمة الإبادة الجماعية للأرمن و بمشاركة الأكراد أيضا.
يظهر جليا ان الأنظمة التركية المتعاقبة استغلت الأكراد للإستيلاء على املاك الأرمن و ثرواتهم و لزرع بذور التفرقة الدينية إذ ينتمي الأكراد و الأتراك الى الأسلام السني نفسه. لم ينتبه الأكراد الى الخطأ التاريخي القاتل الذي ارتكبوه بحق الأرمن إلّا بعد نجاح الكماليين بالأستحواذ على السلطة بعد أن استغلهم الأتراك للقيام بعمليات تصفية الأرمن من الأراضي الأرمنية، ثم جاء دور الأكراد في التصفية. لم يعتبر مصطفى كمال الأكراد قومية منفصلة فأعطاهم تسمية "أتراك الجبل"... في حين كانت النكاتُ العنصرية التركية تُصَوِّرُ الأكرادَ أنهم مجموعة بدوية جاهلة، و هم مسلمون بنظرِ الأتراك فقط عندَ مقارَنتِهم مع الأرمن "الكفار" حسب المثل التركي Giavoura bakarak Kurd musulman.
منذ إنشاء الجمهورية التركية في نهاية العشرينات من القرن الماضي، انتفض الأكراد 27 مرة و سُحِقت ثوراتهم الواحدة بعد الأخرى. أستمر الأكراد في نضالهم و شنّوا نزاعاً مسلحاً ضد الحكومة المركزية نظَّمه حزب (خويبون Xoybun – Khoyboon) الذي أسَّسه الأكراد مع الأرمن، و نجح الحزب في تأسيس جمهورية آرارات و إعلان أستقلالها في 28 تشرين الأول 1927. لعب حزب "الأتحاد الثوري الأرمني / الطاشناق" دوراً بالغ الأهمية في توجيه الانتفاضة نحو النصر بعد أن موَّلَ الأكراد بالمال و السلاح. سحقت السلطات التركية الجمهورية الوليدة في أيلول 1930، و لكنها لم تقضِ على فكرة المسألة الكردية التي نجت و عاشت و تقدَّمت خطوة أخرى نحو الأمام. في هذا الوقت أزداد توهج الحماسة الثورية عندما قاد سيّد رضا، القائد العلوي لعشائر زازا، ثورة جديدة؛ فاستجابت قوات أتاتورك لها و شنَّت مجزرة رهيبة ضد أكراد درسيم و زازا في 1937.
بدأت المعلومات المخفية عن هذه المذبحة تظهر الى الوجود الآن و بعد ثمانين سنة من حدوثها.
بعد التوقيع على معاهدة فرساي في 1919 التي تخص الدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى وهي الدولة العثمانية و المانيا القيصرية و أمبراطورية النمسا- المجر و غيرها من الدول الصغيرة، خُصت تركيا، التي قامت على أرجلها الضعيفة من تحت أنقاض الدولة العثمانية، بإتفاقية سيفر في 10 آب/أغسطس 1920. بموجب هذه الإتفاقية حصلت جمهورية أرمينيا على عموم الأراضي الأرمنية في تركيا الشرقية و أُعطي الأكراد وعداً بالإستقلال.
غيّرت الدول العظمى موقفها من إتفاقية سيفر بعد ثلاث سنوات من توقيعها بعد أن أقام مصطفى كمال آتاتورك تركيا جديدة و على أرجلٍ متينة. في الوقت نفسه كان لينين يحاول أن يُغري كمالاً بالذهب و السلاح لإدخالِ شيوعيته الناشئة الى تركيا نزولاً نحو الشرق الأوسط. رأت الدول الأوروبية أن التحالف مع تركيا قوية أفضل من تقطيع أوصالها الى شعوب المنطقة من أرمن و أكراد...فوقّعت إتفاقية لوزان... و ألغت معاهدة سيفر... التي كانت قد اعترفت في 1920 بحقوق الأكراد في اعلان دولتهم المستقلة تحت المادة 64، و لكن ضاعت هذه الحقوق كما ضاعت مقررات سيفر التي كانت لصالح الأرمن بعد اعلان معاهدة لوزان في 1923 و التي كانت اساسا في تكوين الجمهورية التركية الحديثة.
لم ييأس الأكراد أبداً. و بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، كانت الظروف مناسبة لأكراد إيران لخلق جمهورية أخرى، و هذه المرة في مقاطعة مهاباد. ساعد السوفييت في تأسيس هذه الجمهورية، ليس حُبّاً بالأكراد بل لتحقيق مطامحهم الخاصة و مصالحهم الأقليمية، فأعلنت الجمهورية أستقلالها عن الحكومة المركزية في طهران في 22 كانون الثاني 1946. ترأسَ القاضي محمد الدولة و الملا مصطفى البارزاني رئاسة الأركان. سحقت حكومة طهران، بمساعدة السوفييت و البريطانيين، جمهورية مهاباد بعد 11 شهراً من تأسيسها، و أرسلت القاضي محمد الى المشنقة، بينما لجأ الملا مصطفى الى الأتحاد السوفييتي.
أعتذر القادة السياسيون الأكراد من الأرمن في مناسبات مختلفة و خاصة في أثناء انعقاد الجلسة الأفتتاحية للبرلمان الكردي في المنفى، بروكسيل - بلجيكا، و لكن النيات الصادقة المتبادلة ستتحسن حين يحصل الأكراد على استقلالهم أو حتى على حكم ذاتي مقبول.
و من تفاعلات حرب العراق تكوين حكومة كردستان الأقليمية مع بقاء المنطقة ضمن العراق المتشتت. و في خلال الحرب حصل الأسرائيليون على موضع قدم في كردستان العراق و كان بنيامين نتنياهو، القائد الأقليمي الوحيد الذي دعا رسميا الى الأستقلال الكردي. و ساعد ذلك الوضع الشاذ اسرائيل ان تكون لها دولة صديقة على حدود ايران مع الحؤول دون تكوين حكومة معادية في العراق على غرار حكومة صدام حسين.
على الرغم من المخاوف التركية من الوجود الكلي للأكراد في المنطقة، مدَّت دعمها المشروط للأكراد في العراق مستفيدة من الضخ غير الشرعي للنفط من الأراضي الكردية، من جهة، و تحريض حكومة كردستان الأقليمية في العراق بالدرجة الأولى ضد حزب العمال الكردستاني PKK الذي شنَّ حرباً للأستقلال الوطني في داخل تركيا منذ العقود الأربعة الماضية.
بعد ان أعلن السيد مسعود برزاني، رئيس أقليم كردستان العراق، اجراء استفتاء في 25 أيلول الماضي لأنفصال أقليم كردستان العراق لتشكيل دولة كردية، و بأن الأستفتاء سيشمل أراضي خارج نطاق الأقليم آنذاك، رفعتْ دول المنطقة أعلاماً حمراء منذرة بالخطر المحدق و اجتمعت كلها حول نقطة واحدة لتلافي تبعات الأزمة بعد أن كانت لكل واحدة منها جدول أعمالها المختلف عما للآخرى.
بطبيعة الحال جاء رد الفعل الأول من الحكومة المركزية في بغداد التي قالت ان الشعب العراقي بأجمعه له الرأي الأول في تقرير مصير جزء من العراق الكل.
و بما ان حكومة أقليم كردستان العراق كانت تقيم أعمالاً تجارية مع أنقرة و تحارب الأخوة في حزب العمال الكردستاني نيابة عن تركيا، فقد أعتبرتها الأخيرة حليفاً طيِّعاً و سلس الأنقياد لأهوائها التركية. و لكن فكرة إعلان الأستقلال غيَّرت من المعادلة و أصابت الصاعقة القيادة التركية. دعت تركيا فكرة الأنفصال بـ "الخطأ الفظيع"، و قالت ان مسألة تكامل الأراضي العراقية و وحدتها السياسية هي مبدأ أساسي لأنقرة.
و لغرض الأشارة الى الأزدواجية في النفاق السياسي التركي حول التكامل الأقليمي للأراضي العراقية، يكفي ان نذكر ان تركيا، و حتى الى هذه اللحظة، تنتهك سيادة جارتها بالأحتفاظ بقوات مسلحة على الأراضي العراقية على الرغم من الشكاوي العنيفة التي قدَّمتها حكومة بغداد.
صرَّحت أنقرة تكراراً عن الطموحات الكردية المستقبلية، و لكنها قلقة الآن من التأثير السلبي للأستقلال الكردي و نوَّهت الى تهديد مبطَّن لأنضمام كركوك الى الأقليم الكردي. تملك كركوك جزءا كبيرا من احتياطي نفط العراق حيث وضعت تركيا المنطقة نصب أعينها من مدة طويلة. و لتركيا أيضا طابور خامس من التركمان القاطنين في كركوك ينتظرون دعم أنقرة للأنضمام اليها.
لا تتفق أنقرة مع طهران في كثير من الأمور و لكن يبدو ان لكليهما مصالح مشتركة في الأحداث الكردية. فقد صرَّح الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي في العاشر من حزيران الماضي: "يعتبر أقليم كردستان جزءاً من جمهورية العراق، و تؤدي القرارات الخاصة من طرف واحد و القادم من خارج الإطار الوطني و الشرعي العراقيين، و خاصة تلك التي تنبعث من خارج الدستور العراقي...الى مشاكل جديدة في المنطقة."
في عهد النظام الإيراني السابق لم يكن الشاه محمد رضا بهلوي أكثر رحمة تجاه الأقلية الكردية في ايران. بعد سقوط نظام الشاه، ورث آية الله الخميني ميراث الشاه في قمع التمرد الكردي في ايران.
تقلق ايران، حالها حال انقرة، من قيام كردستان مستقلة في الجوار تثير الحماس لدى أكراد الداخل. اضافة الى هذا، تملك ايران نوعا من السيطرة المفترضة على العراق الذي يحكمه الآن نظام شيعي موالي لها. لهذا، تخاف ايران انه في حالة استقلال كردستان، ستخرج قطعة من العراق خارج نفوذها و من المحتمل ان تلحق بالمعسكر المضاد.
أما السعودية، فهي نادراً ما صرَّحت تصريحاً سياسياً للرأي العام حول الأستقلال الكردي، و من المفاجئ ان المملكة قد أنضمت الى جماعة الداعين الى الأستقلال الكردي و أبدت تأييدها له. على كل حال، تعتبر دوافع المملكة شفافة جداً؛ في اثناء انهيار التحالف الذي قادته السعودية ضد قطر، غيَّرت انقرة موقفها و ولاءها من التحالف الأسلامي، الذي خطَّطَ له الرئيس ترامب، و أيَّدَت قطر المحاصَرَة. و لهذا، تدحض الرياض موقف أنقرة بينما تخدم في الوقت نفسه حليفتها الأستراتيجية، الولايات المتحدة، و حليفتها السرية، اسرائيل.