الشعب العراقي والامتحان العسيرمثنى عبداللهMay 08, 2018
كُتبت الكثير من المقالات، وتناولت العديد من التحليلات واقع العراق والعملية السياسية الجارية فيه. لكن من النادر جدا أن تم تناول العامل الآخر في الواقع العراقي، ألا وهو الشعب. وحتى من جاءوا على ذكره فإنهم غالبا ما صوروه على أنه شعب مظلوم ومُقهر، ولا حول له ولا قوة في كل الذي جرى ويجري على أرض الرافدين.
وحتى لو سلّمنا جدلا بهذا الوصف المفعم بالسلبية، أما آن لهذا المُقهر والمظلوم أن يعي حاله؟ وهل من الإيجابية في شيء أن يبقى الضعيف مستكينا للقوة الغاشمة، ويجلس في خانة الانتظار للنهاية المحتومة؟ إذن لماذا نهزج دائما بأن العراقيين أصحاب غيرة ولا يقبلون الضيم؟ بينما مر عليهم سواد حالك وضيم هالك طوال خمسة عشر عاما؟ أم أنها مجرد شعارات رنانة ومزايدات فارغة وحالة من حالات الطلاق ما بين القول والفعل؟
بعد أيام قلائل يواجه شعبنا مصيره مرة أخرى في امتحان عسير، من خلال انتخابات زائفة هي الرابعة في تاريخه بعد الاحتلال. وإذا لم يُحسن التصرف فيها ويتخذ الموقف المطلوب، وإذا كانت الانتخابات السابقة قد جلبت له قسوة الحياة وشظف العيش، فإن ما هم مقبلون عليه، إن لم يتخذوا موقفا مسؤولا، فإنها ستطحنهم طحنا هذه المرة. فلقد تجذّر الفساد وتغول، وبات جميع من في المشهد بحكم الخبرة والتجرية والغريزة، قادرين على التلون والغش والاختباء. وإن بقي هذا الشعب ينظر إلى حاله وكأنه ليس حاله، فإننا ماضون مرة أخرى إلى نهايات سائبة لا يمكن التنبوء بخواتيمها أبدا.
قد يُبرر البعض هذا الخمول المجتمعي القاتل، بأن الناس انشغلت بتغيرات الحياة التي طرأت على العراق بعد الاحتلال، وباتوا في سعي محموم من أجل الكسب وتدبير لقمة العيش، فتغلب الهم الخاص على العام. لكن ما معنى أن تمتلئ بطوننا بينما غالبية من حولنا جياع؟ وما معنى أن نملأ أفواه أولادنا، بينما أفواه ملايين الاطفال فاغرة تنتظر كسرة خبز؟ ثم أليست الأرض التي أعيش عليها أنا وأنت هي جزء من أرض كبيرة تمتلئ بالجوع والقهر؟ إن ملايين الناس تتحرّق في كل انتخابات إلى شيء آخر غير ما يقال ويُسمع. والملايين يظهرون على الفضائيات معلنين ندمهم على المشاركة فيها سابقا، التي جاءت بالفاسد واللص والقاتل والعميل، ثم يتطوعون لكيل الشتائم والاتهامات للجميع. لكنهم يعودون للمشاركة ثانية وثالثة ورابعة، حتى الشعارات التي باتت تملأ الشوارع والأزقة والجدران، والتي تطوع الغاضبون من الوضع الحالي إلى كتابتها، أصبحت لا معنى لها في ظل هذا الخنوع الرهيب للحالة الراهنة. وبات شعار «المُجرب لا يُجرب» الذي انتشر مكتوبا على جدران كل العراق، يجعلك تستلقي على قفاك من الضحك، لأن شعبنا عاد مرات عديدة لتجربة هذا المجرب. وهم أنفسهم من انتشرت صورهم اليوم في كل زاوية من زوايا البلاد مرشحين للانتخابات. وسيفوزون مرة رابعة إن بقي شعبنا مستكينا الى حالة التلقي السلبي لما يقوله الساسة المتصدرون للمشهد.. أيُعقل هذا؟
هنالك حاجة ماسة إلى ميلاد يوم جديد تهدُر فيه أصوات الغاضبين والجياع والمحرومين والمهمشين والمقصيين. فالحالة العراقية التي تجذر فيها الفساد والظلم وأنعدام القانون والمساواة والحقوق، ليست بحاجة الى أصوات تنفجر ثم تمتصها رتابة الظلم وتعود من جديد الى حالة الخنوع. ما أنتجته العملية السياسية وما جلبته حالة الغزو والاحتلال لا يمكن تغييرها بأصوات فردية واحتجاجات فئوية أو حزبية. كما أن الشعوب الحية لا تخرج محتجة من أجل تبليط شارع، أو المطالبة بزيادة ساعات التجهيز بالتيار الكهربائي، بينما يغرق الوطن بالفساد وانعدام السيادة. وإذا ما بقي الشيعة يقولون إن الحكومة لنا، والسنة يقولون الحكومة ضدنا، فإن واقع الحال سيصبح حالة مستدامة، وسيدفع الشعب العراقي كله الثمن، بينما يبقى اللصوص هم وحدهم من يقبضون الثمن.
إن ما يجب الإشارة اليه، هو أن 15 عاما الماضية لم تفرز بناء قويا يقف في وجه العملية السياسية القائمة. صحيح يمكن الإشارة الى هيئة علماء المسلمين في العراق كنموذج فريد في البناء المقاوم، الهيئة لم يتغير خطها البياني نزولا باتجاه تبني الحالة الراهنة والقبول بها، لكن على الرغم من كثرة مبادراتها التي صاغتها لتوسيع دائرة هذا البناء ليشمل أطرافا أخرى، أصر الآخرون على البقاء ضمن أطرهم الضيقة، ما أفقد العراق فرصة ذهبية لتحقيق شيء ملموس باتجاه التغيير في ظروف دولية كانت داعمة لهذا الاتجاه.
إن علم السياسة يرى أن الدول ليست فقط هي السلطات الحاكمة، بل الشعوب أيضا، فالسلطات الحاكمة بحاجة إلى الشرعية التي تمنحها الشعوب، وأن الأخيرة يجب عليها أن تعطي الحكام شعورا بأنهم غير قادرين على فعل شيء من دون الرجوع إليهم، لكن حالة الاستكانة التي يمر بها شعبنا اليوم أعطت هؤلاء شعورا قويا بأنهم قادرون على فعل كل شيء وحتى تملك الدولة نفسها. كما أعطت شعورا للمجتمع الدولي بأن السلطات بدأت بتثبيت نفسها ضمن إطار الشرعية، من خلال الانتخابات التي يشارك بدفيها شعبنا. وهذه كارثة كبرى بحق العراق والعراقيين أنفسهم.
إن السلطات لا يمكن ان تسيطر على الشعوب وتنهب ثرواتها، إلا عندما تكون الشعوب في أضعف لحظاتها، وأن حالة الضعف التي تنتاب شعبنا لا يمكن تحميل وزرها لجهة ما، بل هي نتاج موقف الإنسان العراقي نفسه. وكل من يعتقد غير ذلك يحاول الهروب من حقيقة واقعة. فالشعب العراقي قرأ ما بعد 2003 قراءة خاطئة، ومازال يمارس هذه الحالة حتى بات الخطأ مضاعفا، فأمست قضيته حالة مركبة وصعبة التفسير والحل. وأن من أكبر الكوارث أن نتآلف مع الحالة الراهنة ونذهب الى ممارسات تُشرعن وجود الفاسدين والعملاء، وكأننا مسيّرون بقوة خارقة خارجة عن إرادتنا.
إن طاقة مقاومة الضعف والهوان موجودة مصادرها في تاريخ العراق والأمة وفي التقاليد والقيم. قد تخفت لكنها لن تموت، لكن يجب ألا نخدع انفسنا ونبقى نقول بأن ما نراه فوق السطح من خنوع هو ليس ما تحته، وأنها حالة مؤقتة ستزول. إننا بحاجة ماسة الى البحث والاستقصاء للوقوف على منظومة التأثير التي جعلت شعبنا ينوء تحت هذا الحمل الثقيل، من دون أي حركة أو انتفاض أو اعتراض. وهل هو قادر على السير ضمن منطق التاريخ؟ أم أنه يحاول أن يكون شيئا أخر؟ نعم هنالك صراع قوى ومصالح وإرادات وممكنات على الأرض العراقية، لكن الشعوب الحية هي التي تستعيد وقائع التاريخ في مثل هذه الظروف. وهذه من تجنبنا الاصعب والامر والاقسى.
لقد تبدد الكثير من الوقت والجهد والأموال والأرواح والمستقبل، على مدى 15 عاما. والمطلوب مواجهة لعبة الانتخابات بموقف واضح وذاكرة حية، عندها سيبرز العقل الذي هو وحده من يقودنا إلى القرار الصحيح والموقف الشجاع. وأن أول خطوة تقودنا للتخلص من الوضع الراهن هو أن يعود العراقيون الى ايمانهم بأنهم شعب واحد وليسوا مجموعة طوائف وقوميات. هذه الخطوة ستمدهم بالقوة وشعورا بالثقة، ما يجعلهم يترفعون عن كل السلبيات التي مارسوها أو التي فرضت عليهم.
باحث سياسي عراقي