المتظاهرون بالعراق… «مخربون إرهابيون إمعات»!
هيفاء زنكنة
Jul 17, 2018
«انهم يستحقروننا… لماذا الاحتقار؟»، يتساءل أحد المحامين الخمسين، الذين شاركوا في مظاهرات المدينة المعروفة بانها مركز المرجعية الدينية الشيعية. كل المشاركين هم من اهل النجف. حين لم يستجب أي مسؤول محلي لاحتجاجاتهم، توجهوا نحو المطار، كمحاولة لجلب انظار المسؤولين إلى مطالبهم التي لا تزيد عن التزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب. كان جواب المسؤولين اتهامهم بالتخريب والإرهاب. وتم اطلاق النار عليهم. اثنان من المتظاهرين استشهدا وجرح 15 آخرين. قتيلان و40 جريحا في اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن في كربلاء. «شهداء الحرية»، يقول المتظاهرون. «إرهابيون، مخربون» يقول المسؤولون. أنه رد الفعل المعتاد من الحكومات الفاشلة.
مظاهرات النجف واحدة من عشرات المظاهرات التي عاشتها مدن اخرى، في الاسبوع الماضي. وهي تكرار لمظاهرات واعتصامات عاشها العراق على مدى 15 عاما، من الاحتلال. بدأت، هذه المرة، من محافظة البصرة، جنوب العراق، التي تحوي أضخم حقول وموانئ النفط، في بلد هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، بعد السعودية، بطاقة إنتاجية قدرها 4.8 مليون برميل يوميا. مع ذلك، يعيش سكانها فقرا مدقعا، واهمالا لا يليق حتى بحيوان. فالماء غير صالح للشرب والجفاف يهدد الاراضي الزراعية والتيار الكهربائي، لقلته، مصدر الهام للنكات والاغاني والشعر المرير. إيران وتركيا تتحكمان بكميات الماء، مصدر الحياة، كما تستفيد إيران من عقود تزويد الكهرباء مع تحكمها بالكمية. حيث يحصل المواطن على بضع ساعات من الكهرباء، يوميا، في صيف بلد هو الاول عالميا، من ناحية ارتفاع درجة الحرارة، اذ ترتفع في الظل إلى 55 درجة مئوية في شهري تموز وآب. واذا كان أهل مدينة الموصل، شمال العراق، مشغولين بجمع اشلاء القتلى الذين بلغ عددهم 5200 في الشهور الاخيرة، وبعد مرور عام على «تحريرها»، فأن مشكلة البصرة والنجف وبابل وكربلاء والناصرية والعمارة، هي البطالة، عموما، الخانقة لأي أمل قد يحمله الخريج.
«في وضعنا هذا نحن لا نعيش بل نمرر الوقت فقط»، يقول احد الشباب في تعليق على الفيسبوك. مهندسو النفط الشباب، مثلا، لا يتم تعيينهم في البلد الذي يحوي اغنى حقول النفط، بل يتم استيراد المهندسين والعمال أما من الخارج أو تعيين غير المؤهلين نتيجة الفساد. حين تجمع المتظاهرون، على الطريق السريع بالقرب من محيط حقول النفط بجنوب غرب القرنة ـ 2، في الاسبوع الماضي، كان هدفهم الاحتجاج على عدم تعيينهم وهم المؤهلون، المهملون، المحتقرون في بلدهم، من قبل المسؤولين الفاسدين والشركات الاجنبية متمثلة بلوك أويل الروسية، وشركة اكسون موبيل. بدلا من الاصغاء لمطالبهم وتهدئة الامور، أتهموا بالإرهاب، وأطلق عليهم الرصاص.
خشية امتداد الاحتجاجات، بدأت أصوات المسؤولين والمرجعية الدينية، بتقديم سردية بديلة للحقيقة، لتحريض عموم الشعب ضد المتظاهرين. تؤيد السردية التضليلية مطالب المتظاهرين، ظاهريا، بينما تدس، عمليا، اتهامات التخريب، وحرصها على «الممتلكات العامة»، ومن ثم حمايتها الوطن من «التدخل الاجنبي»، كأن العراق واحة للسيادة المتكاملة.
ليست مظاهرات المدن، بضمنها النجف، هي الاولى من نوعها، كما ان سقوط الشهداء بيد السلطة التي تدعي تمثيل السكان، ليس الاول. ففي الاول من تموز/ يوليو، العام الماضي، اطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، المحتجين على انقطاع التيار الكهربائي، مما أدى إلى وفاة شخصين وجرح آخرين. برر محافظ النجف، لؤي الياسري، اطلاق النار بأن التظاهرات كانت «تستهدف أمن الدولة والمرجعية العليا». الحقيقة هي وحسب شهود عيان ان «المتظاهرين تجمعوا عند مجمع سكني خاص بطلبة وأساتذة الحوزة الدينية وأحرقوا الإطارات وهتفوا بشعارات غاضبة قبل أن يُطلق عليهم النار». واذا كان التاريخ يعيد نفسه بشكل كوميدي فان المسؤولين وقادة الاحزاب الحاكمة، هبطوا به إلى حضيض المهزلة في اتهاماتهم الجاهزة. اننا نشهد نسخة من احتجاجات واعتصامات أعوام 2011 ـ 2013، في الفلوجة والحويجة والرمادي والموصل، التي تم وصفها بالإرهاب وتصفيتها بالمذابح مع صفقات لبعض رؤساء العشائر. واقترن ذلك بإغتيال الناشطين والقمع المصاحب بتلاعبات التيار الصدري، في مناطق عدة وفي بغداد خصوصا، وبمسار خاص في كردستان العراق.
اليوم، يعود موال توجيه الاتهامات إلى المتظاهرين. حيث يصف عامر الخزاعي، القيادي بحزب الدعوة الإسلامي، مقتحمي مكتب حزب الدعوة الحاكم، بالبصرة، بانهم «مجرمون، آثمون، داعشيون، بعثيون… ويجب ان يعاقبوا». الحقيقة هي ان المحتجين هم من اهل البصرة الذين صبروا على الضيم والاهانة، طويلا، وربما اطول مما يجب، أملا بالاصلاح. فجاء احتلالهم للمكتب، تعبيرا عن نفاد الصبر على رمز للفساد، وتعبيرا عن تقززهم من أحزاب خسرت فرصتها التاريخية في تمثيل الشعب. وهو فعل يتوجب على الحزب الحاكم، فيما لو توفرت النية الصادقة، فهم أسبابه وايجاد الحلول، وبالتالي محاسبة المسؤولين عن حدوثه بدلا من اطلاق النار وتوجيه الاتهامات، المهينة، الجاهزة.
الملاحظ في هذه التظاهرات انها انتفاضة عفوية في المحافظات المحسوبة شيعية، بمشاركة رئيسية من الطبقة المتوسطة من محامين وجامعيين بالاضافة إلى الخريجين العاطلين. مما أجبر عددا من المسؤولين على الوقوف بجانبهم. خصومها هي الأحزاب الشيعية الحاكمة، في بلد بلا سلطة مركزية تقريبا. وأغلب الأحداث تقع في مواقع الفساد والتعسف مثل الحدود مع الكويت وإيران في البصرة والموانئ ومطار النجف ومراكز الأحزاب. لا تبدو للانتفاضة قيادة او شعارات خارج المطالب الخدمية، اي انها انفجار غاضب، فيه تيارات مختلفة، قد تتبناه جهات وقد تحول مساره تلاعبات متناقضة. التحالف الحاكم يتفتت ليس فقط على المستوى الوطني وإنما داخل كل محافظة وداخل كل مؤسسة. وقد لا يستطيع النظام السيطرة إذا ما اختارت قوات الشرطة والجيش الوقوف بجانب اهلهم من المتظاهرين، حينئذ قد تلجأ الاحزاب إلى الاستعانة بميليشياتها المسلحة، وقد يضطر النظام إلى تنفيذ اصلاحات سريعة لاستيعاب الرموز المهنية المحترمة من قبل الطبقة المتوسطة الشيعية.
عموما، نحن على مشارف مرحلة جديدة، غير واضحة المعالم الآن. إلا ان الواضح، تماما، هو الغضب العارم الذي يشعر به المتظاهرون، مؤكدا على ان تغليف الفساد الاداري والمالي والاخلاقي، بمحاربة الإرهاب، واستناد الفاسدين على عكاز المظلومية، شارف على استنفاد صلاحيته. ولن يكون مصير الحكام الحاليين، المستهينين بكرامة المواطنين، افضل من المستعمر البريطاني، متمثلا بالحاكم العسكري كوكس، في عشرينيات القرن الماضي، الذي وصف العراقيين بأن « تسعة أعشارهم من الإمعات»، فكانت ثورة العشرين التي علمته وامبراطوريته درسا لا ينسى.
٭ كاتبة من العراق
- Share on Facebook
- Click to share on Twitter
- Click to share on Google+
- Click to email this to a friend