طريق المعاناة.. قصص تاريخية عن الوجه المأساوي لرحلة الحج
الجزيرة/محمد شعبان أيوب:في كتاب "مرآة الحرمين" يصف إبراهيم رفعت أحوال الأمن في مكة المكرمة في مطلع القرن العشرين بصورة تكشف حجم الخلل والضرر والمأساة التي كانت تُصيب الحُجاج والمعتمرين، فمن يريد زيارة جبل النور وهو جبل قريب من المسجد الحرام الذي يُوجد به غار حراء، كان عليه أن يحمل معه الماء الكافي، وأن يكون الحجّاج على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربّصون بهم لسلب أمتعتهم، ومن الصور البشعة التي ذكرها في كتابه أنه بلغه أن أعرابياً قتل حاجّاً فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو يضحك: الريال أحسن منه[1]!
كانت تبدو على خلفية مشاهد الفرحة الغامرة على الحجاج قديما، مشاعر من الخوف والقلق من المجهول، بل من المخاطر التي جعلت الذاهبين إلى الحج في تلك الأزمنة القديمة يُقال في شأنهم: [size=32]الذاهب مفقود والعائد مولود.[/size]
كان على الحاج أن يودّع أهله، ويكتب وصيته، فلربما لن يعود إليهم، ولن يعرفوا مثواه!
على الرغم من ذلك المجهول في طريق الحج ذهابا وإيابا، فقد امتثل المسلمون في طوال التاريخ الإسلامي نداء الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
فمن تلك الفجاج البعيدة في أقاصي الأرض من مشرقها ومغربها يحج المسلمون منذ شُرع الحج في العام التاسع من الهجرة، ومنذ حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي عُرفت باسم حجة الوداع وإلى اليوم يفعلون، وفي سبيل ذلك واجهوا – لا سيما في عصور ما قبل الدولة الحديثة – ما لم نكن نتخيله في يومنا هذا لولا تواتره في التاريخ!
الحاجّ رهينة لحمّاله!
حين لا تملك وسيلة مواصلاتك في ذلك الزمن الغابر إلى الحج فأنت في غالب الأحيان تقع تحت رحمة الحمّالين والجمّالين، وكان الأغلب الأعم منهم يستغل موسم الحج في زيادة مضاعفة أرباحه للكساد وقلة الأرباح التي كان يواجهها بقية العام، ولأجل ذلك كان الحُجّاج يُعانون معهم أيما معاناة!
تلك المعاناة التي دوّنها عدد من الرحّالة الأقدمين، منهم الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي جاء حاجًا في زمن صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، ورأى بنفسه ما كان يلقاه الحجاج من سكان ميناء عيذاب وهم من البجاة السودان، ساكني الجبال، فيستأجر الحجاج منهم الجمال، ويسلكون بهم الصحراء المصرية الشرقية القاحلة، فيصبح الحاج معهم كالأسير!
يقول:" فربما ذهب أكثرهم عطشًا وحصلوا (أي الجمّالين) على ما يُخلّفه من نفقه أو سواها" بل إن الذين يؤثرون أن يعبروا الصحراء الشرقية للوصل إلى ميناء عيذاب على الحدود المصرية السودانية اليوم، كانوا يصلون في صورة مروّعة من الجوع والعطش، بل يصف ابن جبير بعضهم "كأنه منَشر من كفن، شاهدنا منهم مُدّة مقامنا أقوامًا قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة آيةً للمتوسّمين"[2].
لم تقف معاناة الحجاج في العصر الوسيط عند ذلك الحد من قسوة الحمّالين وغلظتهم، وإنما كان البحر مهلكة كما البر، وكما كان البُجاة السودان المتحكمون في رقاب حجاج مصر والمغرب في الصحراء، كان أصحاب المراكب والسفن في ميناء عيذاب منهم أيضا يتحكمون به في رقاب الحجيج في البحر، فقد كانوا يكدسونهم في المراكب تكديسا طلبا للربح السريع والوفير على حساب أرواح هؤلاء البؤساء.
يقول ابن جبير في ذلك: "ولأهل عيذاب في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة"[3].
فوق ذلك، وحينما يمر الحجاج إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر، كانت السلطات في مكة وحتى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي تفرض على الحجّاج القادمين من المغرب خاصة ضريبة مرهقة، ومن لم يكن يدفع هذه الفريضة لم يكن يُسمح له بالمرور والحج، يقول أبو شامة في تاريخه: " كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حُبس (مُنع) حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا".
وبعد معاناة استمرت عشرات السنوات بفرض هذه الضريبة على الحجاج، ومعاناة الفقراء منهم "رأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرّر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلّد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسط لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء"[4].
لنسقط فريضة الحج!
بلغت صعوبة الحج، وخطورة الطريق أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط تلك الفريضة وحتى زمن متأخر من نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقول محمد ألمامي الشنقيطي: "إن فريضة الحج ساقطة لأسباب عديدة في تلك المدة عن أكثر الشناقطة"، ويفصّل ألمامي هذه الأسباب في قوله إن "قيل كيف يسقط شيء جماعي بمفسدة، قلت الحج جماعي الوجوب وأسقطه كثير من العلماء للمخاطرة بالنفوس على أهل المغرب، قيل ومن كان آفاقي .. قلت: أجمع المحققون ممن حج من علماء المغاربة والمصريين أن السفر في هذا الزمان للحج لا يجوز لا لضرورة ولا لغيره، وذلك لما يقع من تضييع الصلوات الخمس، والمخاطرة بالنفس والأموال والفروج والله أعلم"[5].
بل كان نجاح فريضة الحج لأهل شنقيط (موريتانيا) من بلاد الصحراء المغربية الكبرى في تلك الأزمنة يعد في ذاته استثناءً، نظرا لكثرة فشل رحلات الحج التي كانت بسبب الأمراض أو هلاك الحجاج في الطريق، وعُدت رحلات الحج الناجحة تلك بمثابة "الكرامات" التي نُسبت لأصحابها، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ ماء العينين الذي كان من أوائل من استطاعوا العودة سالمين من رحلتهم للحج، وذكره التاريخ كأحد هؤلاء الناجين "أصحاب الكرامات"[6]!
وفي شرق أفريقيا فإن الرحلة إلى الحج كانت كنظيرتها في الغرب الأفريقي تتميز بالصعوبات البالغة في الطريق، وإن تميز الشرق الأفريقي بالقرب الجغرافي من الأراضي الحجازية التي لم يكن يفصل بينهما سوى البحر الأحمر، ومع ذلك يؤكد الباحثون في تاريخ رحلات الحج الشرق أفريقية إلى تلك الصعوبات والمشاق المهلكة.
فمن أخطر تلك الصعوبات عند الذهاب والعودة تعرض الحجاج للموت دون معرفة مصيرهم والمكان الذي فُقدوا فيه، ورغم ذلك لم يترك الناس أداء هذه الفريضة ولكن بأعداد بسيطة، حتى في بعض الأحيان كان الناس يتذكرون الأحداث والوقائع بالسنة التي حجّ فيها فلان؛ دليل على قلة من حجوا في تلك السنوات.
فمن جملة تلك الصعوبات انتظار الحجاج الأفارقة للسفن التي تقلهم، والتي كانت في الغالب سفنا تجارية تحمل بضائع وتنتقل من ميناء إلى آخر، فكان الحجاج ينتظرون إفراغ تلك البضائع، وحين كانوا يصلون إلى الضفة الأخرى في ميناء عدن اليمن كان الأغلب الأعم منهم ينطلق إلى مكة ماشيًا، وهم في مشيهم سواء في شرق أفريقيا أو في اليمن كانوا يتعرضون لمشكلات جملة وخطيرة مثل السيول والفيضانات التي كانت تقطع الطرق، بل إن الحجاج كانوا يفقدون الطريق الصحيح، فيصلون إلى مكة متأخرين عن موسم الحج، فيضطرون إلى أداء العمرة والرجوع إلى بلدانهم دون أداء الفريضة، على أن المتبع في مثل تلك الحالة مكوث ذلكم الحجيج إلى العام التالي لأداء فريضة الحج دون أن يطمئن أهلهم عليهم في بلدانهم نظرا لانعدام الاتصالات حينذاك[7].
البحث عن الأمان!
نظرًا للمصاعب والمخاطر التي كان يواجهها الحجاج منذ العصور الإسلامية المبكرة؛ فقد تعارف المسلمون على المجيء إلى الحج في جماعات منظمة ومدعومة بفرق عسكرية لتأمين الحجيج؛ كانت أشهر تلك القوافل أو الركائب في الغالب أربعة، ركب الحاج المغربي الذي يضم حجاج المغرب وغرب أفريقيا ويسيرون متحدين أو متفرقين في البر في شمال أفريقيا حتى الوصول إلى القاهرة أو بحرا من المغرب إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة عبر النيل.
والركب الثاني وهو الأهم والأكبر على مدار العصور الإسلامية وهو ركب الحاج المصري الذي كان أكثر تنظيما وأهمية لأنه في الغالب كان منوطا به حمل كسوة الكعبة المشرفة من مصر إلى مكة المشرفة عبر طريق عُرف على مر التاريخ باسم "درب الحاج المصري"، وظلت عادة المحمل وكسوة الكعبة تخرج من القاهرة حتى خمسينيات القرن العشرين، ومع هذا الركب كان ينضم ركب المغاربة وأهل أفريقيا الغربية.
والركب الثالث وهو ركب الشام الذي ينطلق من دمشق إلى الحجاز وكان ينضم إلى هؤلاء حجاج تركيا والقوقاز والروس والتتار وغيره. ثم الركب الرابع ركب الحاج البغدادي والخراساني القادمون من وسط آسيا وإيران والعراق، وثمة ركب للحجاج الهنود الذي كان يأتي بحرا من الهند وجنوب شرق آسيا ويصل إلى ميناء جدة وكان الغالب عليهم تجارة البهارات والمنسوجات وغيرها[8].
رغم ذلك التنظيم لعملية الحج السنوية؛ فإن الحجاج على الدوام كانوا يتعرضون لأكبر خطر هدّد رحلتهم وحياتهم في عالم العصر الوسيط، ذلك الخطر الذي تمثّل في وجود "قُطّاع الطرق" حتى إن تتبعنا لأخبارهم في بطون التاريخ ومصادره ليوحي إلينا أنهم كانوا جماعات منظمة ومدربة لهذه الجرائم المروعة التي ارتكبوها في حق زوّار الله وقُصّاده، ومع هؤلاء سنقف في تقريرنا القادم!