في الموصل… جريمة وليست فاجعة
هيفاء زنگنة
[size=32]في الموصل… جريمة وليست فاجعة[/size]
انها المرة الأولى، منذ غزو العراق عام 2003، التي يقوم فيها محتجون بمطاردة رئيس الجمهورية، يخترقون حاجز حمايته وحرسه المسلح الخاص، ويجبرونه على الفرار، وهو على وشك الاختناق من صرخات الغضب، وموجة الأجساد التي انهكها الحزن. أجبروه على نزع ابتسامته، المستهينة بالناس عادة، ليرتسم على وجهه ذعر، صورته أجهزة الموبايل المرتفعة على الرؤوس. سجلت العدسات كيف بات همه الاول في تلك اللحظات، هو الهرب ممن افترض انه جاء ليكذب عليهم. زحف الى السيارة المصفحة التي تحمل أسم «حماية القائد». تجاذبته الايدي، وسُحبت سترته عدة مرات حين اراد الجلوس فيها. أراد المحتجون ان يعرف ان غرق الضحايا، بالموصل، جريمة وليس فاجعة، وانه، يجب ان يحاسب كما كل مسؤول، أيا كان منصبه، فالفساد معروف، والإرهاب معروف، والاستهانة بحياة المواطنين وحقوقهم لم تعد سرا خفيا، وان السمكة فاسدة من رأسها.
المحتجون هم أهل ضحايا العبٌارة التي أودى غرقها، منذ ايام، بحياة 120 شخصا، بينهم 62 امرأة و18 طفلا، كانوا قد ارتدوا ملابس العيد متوجهين الى جزيرة أم الربيعين، للاحتفال بعيد نوروز، ببدء الربيع، وعيد الأم. المحتجون هم من أهل الموصل، المدينة التي لايزال ضحايا «تحريرها قصفا»، تحت الانقاض، بعد مرور ثلاثة أعوام. المدينة التي يتحكم بحياة أهلها اليوم ميليشيات طائفية، ومحافظ فاسد يمتهن السمسرة، مع آخرين، في عقود «اعادة الاعمار» الوهمية، حاميا نفسه بكل الطرق وبضمنها اعتقال الصحافيين المستقلين وحصر موافقات التصوير والتغطية الإعلامية به شخصياً.
هل كانت زيارة الموت مفاجئة وغير معروفة الأسباب؟ من يراجع يوميات الموصل، منذ الاحتلال، وحتى اليوم، سيجد نفسه ازاء جواب مخيف. فالموت بأشكاله غير المبررة، المبتذلة، والوحشية، مقيم في المدينة. يتجول في أزقتها وغاباتها، قد يغادرها لوهلة الا انه سرعان ما يعود اليها متخفيا أو كاشفا عن أوجهه. فللموت، بالموصل أوجه متعددة. كان المحتل الأمريكي أولها حين أولت قوات الاحتلال للمدينة «رعايتها» وذلك لموقعها الخاص وتنوعها الديني والعرقي. ولأنها، مثل مدينة الفلوجة، رفضت الخضوع للمحتل وقاومته، بكل الطرق الممكنة، كما ينص ميثاق الأمم المتحدة بحق الشعوب بمقاومة الاحتلال. فكانت معركة الموصل في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 التي نجحت المقاومة فيها من استعادة ثلثي المدينة، الى ان تم أرسال 20 ألف جندي من الفرقة 101، المحمولة جواً، بقيادة اللواء ديفيد بترايوس، الذي تمت ترقيته فيما بعد الى منصب القائد العام للقوات الأمريكية، ومن ثم رئيس وكالة المخابرات الأمريكية (السي آي أي) مكافأة له على إنجاح سياسة «مكافحة التمرد» في الموصل أولا ثم بقية العراق. وأرسلت قوات الاحتلال، بالتعاون مع نوري المالكي رئيس الوزراء الذي كان يعرف نفسه بأنه «شيعي قبل ان يكون عراقيا» تعزيزات عسكرية لكبح «التمرد» مرة اخرى عام 2007.
منذ ذلك الحين، وحتى العام الماضي، وعمليات قوات الاحتلال، سواء كانت أرضا أو جوا (بعد احتلال داعش للموصل في 2014) مستمرة تحت عناوين مختلفة ولمحاربة «أعداء» بأسماء تتغير بتغير المتطلبات. فاذا كان «العدو» في بداية الاحتلال هو البعثي والصدامي وضباط الجيش الصدامي المنحل، فأنه تحول تدريجيا الى الإسلامي الإرهابي، عضو تنظيم القاعدة، أولا ثم الدولة الإسلامية (داعش) ثانيا، ولاتزال ماكنة انتاج «العدو» ناشطة لتسويق عدو جديد.
بالتزامن معها، عملت أجهزة الاعلام بحمية ومثابرة على التضليل وتخدير العقول، صاحبها فساد القضاء، لتوفير الحماية لساسة «العملية السياسية»، وارتكاب كل الخروقات والجرائم خارج نطاق القانون، بينما صار مصير أي شخص يحاول ولو اثارة التساؤل حول حقيقة ما يجري، الاتهام بالإرهاب والعمالة بل والتصفية الجسدية.
وفي ظل الحكومات العراقية، ونتيجة للفساد المستشري، حسب التقرير الأخير لمرصد الحريات الصحافية الدولي، باتت «المؤسسات الحكومية تعتم على المعلومات، مما يعرض الصحافيين الى الخطر والملاحقة والتهديد، ولا سيما الساعين الى استحصال معلومات ووثائق متعلقة بالفساد المتعدد الاوجه، فغالباً ما تلجأ تلك المؤسسات إلى حظر نشر المعلومات ومنع تداولها». فتزايد عدد مكاتب «المتحدثين الرسميين» المختصين بتقديم البيانات حول «أنشطة» المسؤولين الايجابية فقط، بالإضافة الى منابر الاعلام الحزبية، بينما أغلقت الابواب امام الصحافيين.
هذه هي خلفية جريمة غرق العبارة. انها ليست « حادثا» مؤسفا أو كارثة بيئية نترحم فيه على أرواح الضحايا، نقيم مجالس العزاء وقد نقبض بعض التعويضات، ثم ننسى. بينما يواصل السراق النهب من جهة والجلوس في استديوهات القنوات الفضائية، متظاهرين بالنزاهة واتهام الآخرين بالنهب، من جهة أخرى. نحن ازاء عصابة تتقن الكذب على الشعب وتزوير الحقائق. إذ من الضروري تزوير التاريخ واضفاء صفة النبل على ما يرتكبونه.
وهذا هو بالضبط ما أعلنوا أنهم «سيقومون» به، إزاء «فاجعة العَبٌارة». أرسل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد ان رأى ما لحق برئيس الجمهورية برهم صالح، تغريدة الى رئيس البرلمان طالب فيها بإقالة محافظ نينوى «للاهمال والتقصير الواضحين في أداء الواجب والمسؤولية، ووجود ما يدل من تحقيقات تثبت التسبب بالهدر بالمال العام واستغلال المنصب الوظيفي». ووافق البرلمان على الطلب داعيا الى « تشكيل لجنة تحقيق». يهدف هذا القرار، كما هو واضح، الى القاء اللوم على ثلاثة أشخاص هم المحافظ ونائبيه، بعد ان اكتشف رئيس الوزراء، فجأة، وبقدرة قادر، اهمال وتقصير المحافظ، فأرسل تغريدته للاعلان عن اكتشافه وبيان نبل أخلاقه. غاية القرار الحقيقة هي طمر الفساد الأكبر، المتجذر بعمق المؤسسات الحكومية في كافة ارجاء العراق وليس الموصل لوحدها، بدءا من رأس السمكة حتى ذيلها.
أما الاعلان عن تشكيل لجان التحقيق أو فتح الباب لذوي الضحايا للمطالبة بالتعويضات، فانه مسخرة أخرى واستهانة لا مثيل لها بذكرى الضحايا وذويهم، فكلنا يعلم مصير مئات لجان التحقيق التي تم تشكيلها منذ الغزو وحتى اليوم. أنها لجان فضائية، حسب معجم العملية السياسية، واذا وجدت لغرض دفع مخصصات لأعضائها، فلم يحدث وتم الاعلان عن نتائجها. أما طلب اهل الضحايا بالتعويضات، فكلنا يعرف تكلفة التقدم بأي طلب كان الى أية جهة حكومية والذي من المستحيل انجازه بدون دفع مئات وآلاف الدولارات. إن ما قام به المحتجون، في أعقاب انتشال الضحايا، فعل نابع من فهم لما حدث والظروف التي ادت الى حدوثه، وهو أعمق من المخدر الذي تقدمه الحكومة والبرلمان.