تحية لعزيز العراق في ذكرى استشهاده
بقلم الرفيق المناضل صلاح المختار
ابن العراغق البار
مرت يوم 5-6-2019 ذكرى استشهاد عزيز العراق والامة العربية القائد والرفيق والاخ والمعلم طارق عزيز ، بعد اعدام بطيء تعرض له في سجون الاحتلال بصورة متعمدة قامت به ليس فقط اسرائيل الشرقية بل وقبلها الادارة الامريكية ، والاسباب متعددة منها ان امريكا لم تنسى لطارق عزيز انه اعز العراق ورفع كرامته عاليا وعبر عن رجولة العراقي وبسالته حينما اجتمع في جنيف يوم 9 كانون الثاني من عام 1991 بجيمس بيكر وزير خارجية امريكا ،ورفض تسلم رسالة الرئيس الامريكي جورج بوش الاب التي هدد فيها العراق بالتدمير فرمى عزيز الرسالة بعد قراءتها على الطاولة ، قائلاً بهدوء حسب ما اكده محمد حسنين هيكل: )لا أستطيع أن أقبل هذه الرسالة، ولا أستطيع نقلها لرئيسى لأن اللهجة التى كتبت بها ليست مما يمكن أن يستعمل فى توجيه خطاب من رئيس دولة إلى رئيس دولة آخر( ، فعدت امريكا هذا التصرف تحد لها .
وما نشر في الاعلام الامريكي حول هذا اللقاء وما رافقه له دلالات كبيرة جدا ومنه ان بيكر عندما عاد والتقى ببوش الاب وسرد له ماحدث مع عزيز العراق تأوه بوش وقال كلمته الشهيرة : ( تمنيت لو كان لدي وزير خارجية مثل طارق عزيز )، ضمرت له الاجهزة الامريكية شرا مستطيرا وانتقمت منه بعد الاحتلال بتسليمه لنغول اسرائيل الشرقية رغم الاعتراف بانه كان اسيرا وكان يجب اطلاق سراحه قبل الانسحاب الامريكي في عام 2011 ورغم انها كانت تعرف حق المعرفة بان تسليمه لهؤلاء سيؤدي لتعرضه لاشد انواع التعذيب وكانت كل المؤشرات تدل على انها شجعت الاحتلال الايراني على اعدامه ببطء وهو ما حصل .
دون ادنى شك فان التاريخ قد سجل بأحرف من نور بان طارق عزيز كان رجل المهمات الصعبة والعبقري الذي كان له الدور الحاسم في الارتقاء نوعيا بالسياسة الخارجية العراقية الى مستوى عالمي تتمناه دول كثيرة ، والسبب انه كان مطلع بعمق على ماتراكم في وزارة الخارجية منذ العهد الملكي من خبرات مهنية راقية حتى توليه المسؤولية المباشرة عنها ، وبما ان العراق الصاعد في العهد الوطني كان بحاجة لوزارة خارجية تجمع بين المهنية والنقاوة الوطنية فقد هندس عمل وزارة الخارجية جامعا خبرات الماضي المهني الممتازة بمتطلبات عراق قوي يصعد بسرعة ويحتاج لوزارة خارجية تخدم عملية صعوده .
وهذ الدور القيادي الذي لعبه طارق عزيز ،في اعادة بناء وزارة الخارجية اصبح القاعدة الارتكازية لعملها حتى الاحتلال، يختلف نوعيا عن دور كافة وزراء الخارجية قبله وبعده حتى نهاية العهد الوطني ، فهو لم يكن وزيرا للخارجية فقط بل كان عضو القيادتين القومية والقطرية وعضو مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الوزراء ، وهذه القيادات كانت هي من تضع الستراتيجيات في كافة المجالات وتترك للوزراء دور تقديم خطط مبنية على تلك الستراتيجيات المقررة وترفعها للرئيس ومن معه لاقرارها قبل تنفيذها . فطارق عزيز بهذه الصفات المتعددة وليس بصفته وزيرا كان قائدا يشارك بقية القيادات الثلاثة في وضع سياسات العراق كلها بما فيها وزارة الخارجية والتي يتولى وزير الخارجية تنفيذها وليس صنعها.
من هنا نرى ان طارق عزيز حفر على قطعة ماس وهي اصلب مادة في الكون حقيقة تاريخية مجيدة وهي انه ورفاقه في القيادات الثلاثة وضعوا منطلقات واسس العمل الخارجي العراقي واشرفوا على تنفيذها ، وهو لذلك المعلم لكافة سفراء بعد عام 1980 وانا منهم،اضافة الى انه لم يكن يمارس دور وزير الخارجية فقط بل كان ايضا مشرفا على ثلاثة وزارات :الخارجية والتعليم العالي والتربية والتعليم .
وما ميز طارق عزيز ومكنه من لعب دور قيادي في التخطيط والتنفيذ لم يكن كفاءته فقط بل اقترانها بسمات اخرى اهم بكثير منها وهي وجود نظرة ستراتيجية لديه لبناء كيان عصري يلبي متطلبات بناء عراق قوي وناهض وهذه النظرة يمتلكها القائد وليس الاداري . ومن اهم التعبيرات عن الشخصية القيادية البحث عن الكفاءات ومنحها فرص العمل بحرية واظهار ما لديها من تميز وقدرات بغض النظر عن علاقات هؤلاء بالقائد ، ولهذا كان طارق عزيز يدعم كل كفاءة حتى لو كان شخصيا لايرتاح لها او لديه ملاحظات سلبية اخرى عنها ، مثلما لا يدعم من ليس لديه الكفاءة لمجرد انه قريب منه،ونتيجة هذه الروح نجح عزيز في ايصال وزراة الخارجية الى قمة نهوضها الذي لم يسبقه احد قبله ولا لحقه احد بعده فيه .
وطارق عزيز كان يعبر عن طبيعته القيادية بتساميه عن الغرضية والانانية لان مجرد وجودهما يجعل الكفاءة القيادية وسيلة شيطانية لامرار كل الممارسات الانانية المضرة بعملية الابداع ، والغرضية والانانية تجردان الانسان من سمة ارقى وهي الوفاء لهذا عرف عزيز العراق بانه رجل الوفاء في عمله مثلما كان وفيا لرفاقه ويتابع حالتهم ويسندهم عندما يمتلكون الحق والكفاءة ، ولا يتطير من بروز عناصر كفوءة فيبعدها او يسيء اليها كي يبقى وحده تحت الاضواء .والوفاء كالصدق يتصدر حسنات البشر فمن لا وفاء شخصي لديه لايمكن ان يكون وفيا للوطن مادام الوفاء كل لايتجزأ وقيمة اخلاقية لاسبيل الى ممارستها بانتقائية مبتذلة . ولتأكيد وفاءه للوطن يكفي التذكير بدوره المشهود في اعداد من يقودون الوطن في كافة المجالات ضمن مسؤوليته ، مثل قادة الثقافة والاعلام والسلك الخارجي فقد كان رحمه الله ينتقي من الكتاب من يرى تميزه ويمهد له طريق التقدم عندما كان وزيرا للاعلام وعندما اصبح وزيرا للخارجية انتقى من عملوا معه وعرف قدراتهم المتميزة في مجالات معروفة فنقلهم لوزارة االخارجية وعينوا سفراء باقتراح منه .
وكاتب هذا المقال من تلاميذ طارق عزيز وتكريما لذكراه الغالية لابد من تسجيل شهادتي وفيها بعض مأثره هنا : حيث عملت تحت قيادة طارق عزيز في اكثر المواقع التي تولى مسؤوليتها ،فقد طلب اللقاء بي عندما كان رئيسا لتحرير جريدة الثورة ، بعد ان قرأ ما كنت اكتبه ، وزرته في دار الثورة وكانت تلك بداية علاقتنا، وكنت اعمل في وكالة الانباء العراقية وكان هو وزيرا للاعلام وكان يلتقي بنا دوريا ، وفي مركز البحوث والمعلومات الذي كان تابعا لمجلس قيادة الثورة وكان طارق عزيز هو المشرف عليه اختارني للعمل فيه بنقلي من وزارة الاعلام اليه ، وحدد مسؤوليتي عن قسم امريكا ، وهو ارسلني في عام 1979 الى بريطانيا في دورة تقوية اللغة الانكليزية لمدة ثلاثة اشهر ، وكان ذلك تمهيدا منه لتكليفي بواجب اخر ، وطارق عزيز هو من كان له الفضل في تخصصي بالسياسة الامريكية عندما كلفني بالعمل كمستشار صحفي في البعثة العراقية في الامم المتحدة وقال لي حرفيا وانا اغادر (لقد اخترناك للعمل في الامم المتحدة في نيويورك لتعميق معرفتك وخبرتك بالسياسة الامريكية وتعود خبيرا ). فاكتسبت الخبرة من الانغماس في دراسة السياسة الامريكية ودرست في نفس الوقت في جامعة لونج ايلاند .
وطارق عزيز لايترك من يبدأ بدعمهم بل يواصل متابعتهم : فهو من طلبني في عام 1985 بعد عودتي من امريكا للعمل في وزارة الخارجية فنقلني من وزارة الاعلام اليها تمهيدا لتعييني سفيرا،لكن رفيق العمر المناضل لطيف نصيف جاسم فك الله اسره وزير الاعلام اخبرني انه رأني القي كلمة من شاشة التلفزيون فهاتف الشهيد طارق عزيز وقال له (صلاح المختار هو الاصلح للاعلام الخارجي ) وطلب منه اعادتي الى وزارة الاعلام وتعييني مديرا عاما للاعلام الخارجي فعينت ، ولطيف نصيف جاسم قدم اسمي لاعين امينا عاما مساعدا في الجامعة العربية لشؤون لاعلام بدعم طارق عزيز ،وقبلها قدم الرفيق جاسم اسمي مرشحا عن العراق لاكون رئيسا للجنة الدائمة للاعلام العربي في الجامعة العربية وصرت كذلك ، وهي لجنة تضم وكلاء وزارات الاعلام .
اما تعييني رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية وتعييني سفيرا فقد كانا بقرار مباشر من القائد الشهيد صدام حسين ، والذي تشرفت بمعرفته شخصيا في عام 1963 بعد عودته من مصر ،وتعييني سفيرا عرفت به قبل صدور المرسوم الجمهوري باسابيع ، ففي ليلة واثناء عملي في جريدة الجمهورية هاتفني الدكتور (س. خ) وكان مديرا لمكتب احد قادة الدولة وقال لي انه يرغب بزيارتي عاجلا فاستغربت وقلت له اهلا وسهلا، وعندما وصل قبلني مهنئا وطلب مني حفظ ما سيقوله لي سرا فوعدته واخبرني بانني سأعين سفيرا فقلت له : كيف عرفت ؟ فقال لي :انا اعمل مديرا لمكتب (فلان ) كما تعلم واطلعت اليوم على مذكرة رفعت للرئيس القائد من وزارة الخارجية فيها اسماء مرشحين كسفراء ، وتركها الرئيس لعدة اسابيع دون ان يبت فيها ولكنه اخيرا همش عليها بالعبارة التالية التي قرأتها اليوم : (يعاد النظر في الترشحيات ويجب اختيار مرشحين بمواصفات الرفيق صلاح المختار ) ومن قال ذلك لي رفيق وصديق وهو حي يرزق. وعينت سفيرا فوق العادة في الهند.
اذكر كل ذلك لاصل لنتيجة جوهرية وهي ان دورنا وابداعنا ونجاحنا ليس فقط نتيجة قدراتنا بل من المهم ايضا ان تكون القيادة هي من يتابع بعين صقر ليكتشف المواهب والامكانيات ويضعها في مكانها المناسب ، وهذا ماكان يفعله القائد صدام حسين ومافعله ويفعله القائد عزة ابراهيم خصوصا بعد الاحتلال، وهو ما فعله عزيز العراق. وهذه السمة من اهم ما في القائد من سمات لانه لايؤدي دوره كعضو قيادة فقط بل انه يفكر بالغد وما فيه من ضرورات واهمها اعداد قادة في كافة المجالات لتبقى الدولة والحزب في حالة تجدد وتقدم ولتتسلم الاجيال المختلفة المسؤولية من بعضها وتواصل العمل التاريخي في بناء الدول والامم .
في حياتي كمناضل بعثي امضى في الحزب 60 عاما اعترف بفضل صدام حسين وعزة ابراهيم وطارق عزيز ولطيف نصيف جاسم في اختياري للعمل والتقدم فيه ، فكل واحد من هؤلاء كان له فضل علي مثلما كان له افضال على غيري ، ولكن ما ميز طارق عزيز انه لم يكن يعرفني شخصيا عندما اختارني بينما الشهيد صدام والرفيقان عزة ابراهيم ولطيف نصيف جاسم كانوا يعرفونني شخصيا قبل اختيارهم لي ، قيمتنا الاخلاقية لاتظهر الا بتذكر وذكر ذلك كي تتعلم الاجيال القادمة كيف ان من هو فوق يجب ان ينظر بعين صقر بحثا عن الكفاءات وهذا احد اهم اسباب بناء العراق العظيم بتقدمه ، وحينما اقول لهؤلاء فضل علي وعلى غيري فلانني ارغب بان يعرف العالم كله كيف ان القادة هم من يصنعون القادة مثلهم ليكملوا طريق بناء الامة .هل من تصحيح لما قلت ؟ نعم فتعبير (لهم فضل علي) غير دقيق والاصح القول : ان واجبهم كقادة هو انتقاء الكفاءات لتعمل معهم خدمة للعراق والامة .
أليس من الوفاء والسمو الاخلاقي قول كلمة حق بحق عزيز العراق ؟ لقد دعم العشرات فلم يصمتون ؟ المؤلم اكثر ان نرى بعض تلاميذه يتعمدون الاساءة اليه فكيف نفسر ذلك ؟ربما التفسير هو (ان الاناء ينضح بما فيه) .ستبقى ذكراك (ابو زياد) رمزا عظيما من رموز عراق عظيم ناهض احترم كل ابناءه .
Almukhtar44@gmail.com
6 -6-2019
3