الواقع والخيال في خطبة جمعة طهران الأخيرة
منذ 24 ساعة
مثنى عبد الله
13
حجم الخط
بعد ترؤسه مجلس الأمن القومي الإيراني، غداة مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، يعود المرشد الأعلى علي خامنئي للظهور مجددا خطيبا ـ في الأسبوع الماضي ـ على منبر جمعة طهران، حيث كانت آخر مرة اعتلى فيها المنبر نفسه في عام 2012. فما هي الدوافع وراء هذه الممارستين السياسية والدينية؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات يكون الظهور على هذه الشاكلة وسط المسؤولين والجماهير؟
إن الظروف التي تحيط بإيران استثنائية بكل المعاني والظروف والأحوال، وربما لم تمر بمثلها منذ زمن بعيد. ولابد أن تصيب المرشد الأعلى حالة الاستثنائية هذه، خاصة أن أمن النظام واستمرارية المنهج، تأخذان مراتب متقدمة على كل ما يلي ذلك، حتى إن خسر بعض رجالاته، بل أكثر ما يقض مضجعه أن يكون النظام مهددا بهذا الشكل الحاد، لذا كانت الضغوطات الداخلية والخارجية، والغياب المفاجئ للرجل الثاني في النظام بكل ما يمثله من أداة فاعلة في تحقيق السياسات الايرانية في الداخل والخارج، بعد مقتله على أيدي القوات الأمريكية قرب مطار بغداد الدولي، هي التي دفعت الرجل لممارسة التثقيف السياسي والديني معا، بوجوده على المسرح بفعاليات سياسية ودينية مباشرة. فطهران اليوم تعاني من انقسامات كبيرة في البنية الداخلية للنظام، وقد انعكست هذه حتى على بنية أذرعها في المنطقة، فالزلزال الذي يقع في المركز لابد أن تصيب ارتداداته الفروع. وقد كان مقتل سليماني زلزالا كبيرا، أفقد الأذرع الخارجية بؤرة السيطرة والقيادة، وبات صانع القرار في طهران في حالة قلق كبير، من ردود الفعل غير المحسوبة للأذرع في الصراع الدائر مع واشنطن. وبالتالي قد يتحمل صانع القرار الإيراني وزر ذلك إن حصل. فحسابات هذا الصراع كانت بيد القتيل، بكل ما كان يمثله من كاريزما وصلاحيات وعقل مدبر بها، يستطيع أن يبقي الجميع تحت مركزيته.
- اقتباس :
- طهران اليوم تعاني من انقسامات كبيرة في البنية الداخلية للنظام، وقد انعكست هذه حتى على بنية أذرعها في المنطقة
إن الرسائل الداخلية التي أراد المرشد أن يقول بها إن إيران مازالت دولة قوية وقادرة على الفعل، وإن القيادة فيها لا تخشى أحدا في العالم، بدليل أنها وجهّت صفعة قوية للدولة الاعظم في العالم الولايات المتحدة الامريكية. كما أن الشعب الايراني مازال موحدا خلف هذه القيادة، على الرغم من الهتاف (الموت لخامنئي) وتمزيق صور قاسم سليماني، بعد الاحتجاجات العنيفة التي انفجرت عند الاعتراف بالمسؤولية في إسقاط الطائرة الأوكرانية عن طريق الخطأ. كل هذه لم تعد تقنع أحدا بصدقيتها في الداخل الإيراني، لذا بدا وكأنه يحاول التركيز على صدقيتها هو بنفسه، من خلال ظهوره على المنبر. وكيف له إقناع الداخل الإيراني وحتى الأذرع الخارجية، بعد أن تبين أن الصواريخ الإيرانية التي وصلت الى القواعد الأمريكية في العراق، كانت باتفاق إيراني – أمريكي كي لا يُقتل أحد من جنود الشيطان الاكبر؟ أليس هذا هو التثقيف الذي يمارسه النظام الإيراني على شعبه يوميا ومنذ سنين طوال؟ بمعنى أن كل ما قاله زعماء إيران من رد مزلزل، وأن ساحات الشرق الأوسط ستمتلئ بجثث الجنود الامريكان، كانت خديعة وافتراء على الشعب الايراني وتغفيلا متعمدا له. حتى بدا واضحا أن قضية مقتل قاسم سليماني قد وضعها النظام على الرف في سوق المزايدات السياسية. وهنا تأتي أهمية استمرارية النظام، أكثر إلحاحا على صانع القرار الإيراني، من استمرارية شخوصه في المشهد، حتى إن تم استهدافهم من قبل العدو.
أما الرسائل الخارجية التي حاول المرشد بعثها من على منبر جمعة طهران، فهي ليست أفضل حالا من رسائله الداخلية المتناقضة. لقد تحدث عن الردع الايراني ضد التهديدات الخارجية، كما كال الشتائم لأوروبا واصفا قادتها بأنهم ذيول للولايات المتحدة لا يمكن الوثوق بهم، لكنه عاد ليقول بأن التفاوض ممكن فيما عدا الولايات المتحدة. في حين يعرف جيدا أن مشكلة نظامه هي مع الولايات المتحدة وليس مع غيرها، وأن التفاوض المباشر، أو غير المباشر سيكون بالضرورة معها، لكنه يتحدث بهذا المنطق فقط كي يحفظ ماء وجه نظامه. فالتفاوض الممكن الذي يقصده هنا هو مع أوروبا، التي لم يذكرها بالاسم، لأن الاوروبيين اليوم باتوا أقرب الى الموقف الأمريكي من أي وقت مضى، بعد أن هددوا بأن المسار المحتمل ضد طهران سيكون إعادة فرض العقوبات عليها من مجلس الأمن.
إن الصياغة اللفظية لطبيعة الخطاب الذي طرحه المرشد الأعلى كانت محمّلة بمئات العبارات التي تبين قوة إيران ورفضها الرضوخ للعقوبات الامريكية. كما كانت تطغى عليه العبارات الدينية التي تصف كل الأفعال الايرانية على أنها أفعال ربانية، كي يبعد الاتهام عن نظامه، بأنه لم يكن في مستوى الحدث. فهو يقول بأن الضربة الايرانية على قاعدة عين الاسد في العراق بأنها (أحد أيام الله)، وأن (ما حدث كان لا يمكن أن يكون عملا بشريا، بل يد الله)، وأن اليوم الذي سقطت فيه صواريخ إيران على القاعدة الامريكية كان (يوم القيامة). وهذه كلها هروب من حالة الضعف بعد العنتريات الواسعة التي سمعها العالم كله من قيادات النظام، إلى محاولة الاستثمار في المعاني الروحية التي لها وقع كبير في نفوس الناس. وهذه إشكالية كبرى يعاني منها المرشد اليوم، لانها تصيب الخطاب (المقاوم) الذي يستثمر فيه بالتلكؤ، بعد أن بدت الأدوات التي كانت موضوعة لهذا الطريق غير فاعلة وغير قابلة على تحقيق ذلك الشعار. لذا هو اليوم تحت ضغط مسؤولية إعادة تدوير ذلك الخطاب، فذهب للقول بأن العقاب الحقيقي هو إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من الشرق الاوسط. في حين أشاع عند مقتل سليماني بأن جثث الامريكان سنتعثر بها في الشوارع بفعل إيراني. لكن تبين أن صواريخه غير قادرة على دك أهدافها بصورة فاعلة. كما ظهر أن قدرته السياسية محدودة في الفعل مما حجّم قدرته العسكرية.
إن المرشد الاعلى اليوم تحت ضغط الانصار والأذرع الذين يريدون زخما جديدا من الخطاب المعتاد. لقد استمرأوا ذلك وبات زادهم الاول والاخير الذي يهددون به المنطقة، وعليه أن يستجيب لهم كي بقى هو هو في نظرهم. لذا اعتلاؤه منبر الجمعة كان حاجة ماسة لحشد الدعم بعد أسابيع مضطربة. لكن حزام النار الذي رسمته الولايات المتحدة مؤخرا، والقائل بأن الدم سيقابله دم أيضا. كما إن التغير في قواعد الاشتباك الذي وضعته واشنطن، من خلال استهداف شخصيات إيرانية رسمية. كلها تُقيّد الرجل وتجعل قدرته على الحركة محدودة ومقتصرة على الأقوال لا الأفعال. فطهران اليوم انتقلت من الدولة التي لا يمكن توقع أين ومتى وكيف سيكون فعلها؟ إلى دولة واقعة تحت طائلة أين ومتى وكيف سيرد الطرف الآخر عليها؟ هذه الحالة وضعت صانع القرار الايراني في حالة تشويش تام أملا في اللحاق بغير المتوقع مستقبلا، وترتيب سياسة تقوم على هذا الأساس.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية