حين أصبح العراق صندوق بريد رسائل طهران وواشنطن
منذ 22 ساعة
ذهب الكثير من المحللين السياسيين العراقيين للتفاؤل المُفرط، بعد وصول الرئيس الأمريكي جورج بايدن إلى البيت الأبيض، فقالوا إن الهدوء سوف يعم الساحة العراقية، لأن طهران سوف تمنع أذرعها من إطلاق الصواريخ على الأصول المدنية والعسكرية الأمريكية، إغراء لبايدن وحسن نية منها، كي يعود إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
لكن بعد أيام معدودة من تسلم بايدن منصبه، تم قصف السفارة الأمريكية في بغداد، وسقطت بعض القذائف على الأحياء المجاورة، ثم تلا ذلك قصف قاعدة أمريكية في مدينة أربيل شمال العراق، في الخامس عشر من الشهر الجاري، أسفر عن مقتل متعاقد مع التحالف الدولي، وإصابة آخرين بجروح وأضرار مادية في ممتلكات خاصة وعامة. أعلنت بعدها ميليشيا غير معروفة سابقا «أولياء الدم» مسؤوليتها عن الهجوم وتوعدت بالأكثر، لكن مجهولية هوية القائمين بهذا الفعل ليست مسألة مهمة كثيرا، فقد سلك الكثير من الميليشيات المعروفة على الساحة العراقية طريق المهادنة مع الأمريكيين بعد مقتل قائد فيلق القدس الإيراني ومساعده أبو مهدي المهندس، أو العمل تحت تسميات أخرى، كي لا يتم استهداف زعماءها المعروفين في المشهد. لذلك سمعنا بميليشيات «أصحاب الكهف» و»قبضة المهدي» و»عصبة الثائرين» واليوم «أولياء الدم» وهذه كلها لم تُعلن عن مرجعيتها الدينية أو السياسية كما جرت العادة. لكن لا جهد يستحق بذله في التحقق من ذلك لان الخطاب وأسلوب التعرض وطبيعة ونوع التسليح والأهداف، كلها تشي بأن هذه ما هي إلا واجهات لتلك، ويبدو واضحا أن ذلك يصب في لعبة التمويه لإبعاد الاستهداف.
أما لماذا لم ترفع طهران غصن الزيتون بيدها، وتوقف أتباعها عن الاستمرار في هذه التعرضات على الأصول الأمريكية في العراق، لإغراء بايدن بانتهاج سياسة كالتي سلكها أوباما؟ فذلك يعود أولا إلى أن النخبة السياسية الإيرانية معقدة ولديها خلافات كبيرة واتجاهات متعددة، وبما أن الميليشيات العراقية ليست تابعة لجهة إيرانية واحدة، بعضها يتبع التيار المتشدد في إيران، وأخرى تتبع جهاز المخابرات الإيراني «أطلاعات» وثالثة تتبع جهات أخرى، لذلك لن يكون هنالك موقف مهادنة مع الولايات المتحدة، بسبب وصول إدارة أمريكية جديدة. ولو تتبعنا الفعل الميليشياوي ليس في العراق وحده، بل في المنطقة، نجد ليس الميليشيات العراقية وحدها لم توقف نشاطاتها وحسب، بل إن الحوثيين كذلك بقوا مستمرين في قصف الأراضي السعودية في عهد بايدن، على الرغم من أنه رفع اسمهم من قائمة الإرهاب، وفي لبنان قُتل لقمان سليم واتهمت أذرع إيران بهذا الفعل أيضا. هذا يعطي انطباعا راسخا بأن الفاعل السياسي الإيراني يجد أن هذه الساحات مهمة جدا للفعل الاستهدافي المتضمن رسائل سياسية، وهو يعتبرها صناديق بريد رسائله إلى واشنطن. كما أن طهران دائما ما تستخدم التهديد والعنجهية والدفع بالامور إلى حافة الهاوية، كوسائل لتحقيق غايات وأهداف سياسية. لقد كان الهدف الرئيسي من قصف محافظة أربيل هو توجيه رسائل إلى عدة جهات. أولها إلى الإدارة الأمريكية الجديدة، لجس النبض ومعرفة طريقة وحجم رد الفعل، واستثمار ذلك سياسيا، كي يرسم في ضوئها صانع القرار الإيراني خطته في التحرك لدفع واشنطن للعودة إلى الاتفاق النووي. وأربيل دائما حاضرة في العقل العسكري الأمريكي كقاعدة بديلة في حال استمرار التعرض الميليشياوي على المنشآت الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية في بغداد والأنبار وصلاح الدين، لذلك الضغط على الأمريكيين في هذه المنطقة يكون مُكلفا سياسيا وعسكريا لهم، باعتباره ملاذا آمنا أكثر من غيره. الرسالة الثانية هي موجهة إلى الأحزاب الكردية في شمال العراق، في محاولة لتحجيمها، خاصة أن هنالك اتجاها داخل مجلس النواب يقوده نواب الجناح السياسي للميليشيات، يدعو إلى العودة إلى سلطة مركزية واحدة، وإفراغ الفيدرالية من محتواها، قطعا للطريق على الآخرين من أحزاب الإسلام السياسي السني، الذين بدأوا يُصرحون بالذهاب إلى الاتجاه الكردي نفسه. والرسالة الثالثة موجهة للحكومة الكردية كتهديد بسبب موقفها المؤيد لبقاء القوات الأمريكية في العراق. وقد ظهرت رسائل نشرتها بعض الميليشيات على مواقع التواصل الاجتماعي تهددها وتتهمها بالعمالة، وتتوعد بأن المقبل سيكون أسوأ. كما أن القصف يهدد الاستثمار في هذه المحافظة، وبالتالي يزيد من حالة التدهور الاقتصادي التي يعانيها الشمال.
- اقتباس :
- كان الحديث سابقا أن إيران تقاتل بالغير، خارج خريطتها الجغرافية، فإذا ربح هذا الغير تربح، وإذا خسر يخسر هو فقط
في الاتجاه المقابل تسعى الولايات المتحدة كذلك للاستثمار في هذا التعرض، لتوجيه رسائل إلى إيران في العراق أيضا، فواشنطن تعلم جيدا أن حادث أربيل مسرح اختبار لها من قبل طهران، وهذا الحادث وضعها أمام خيارين صعبين، إما رد يبدو حازما ورادعا، وبالتالي تعود سياسة ترامب تظلل على سياسة بايدن، التي يريد هذا الأخير من العالم أن ينساها، أو أن يبقى صامتا فيخسر المصداقية مع الشركاء الإقليميين الذين وعد بالعودة إليهم وحمايتهم ومشاورتهم، وكذلك الحلفاء الأكراد الذين يرتبط معهم بعلاقات صداقة قوية وقديمة، لذلك هو فضّل التأني في الأمر، وقال إن الادارة تحتفظ بحق الرد المناسب في الوقت المناسب مشفوعا بتصريحات من أقطاب إدارته بأن واشنطن لن تتهاون. وهنا هو يرسل رسالة إلى الشركاء الإقليميين بأننا سوف نرد ولن ننسى ذلك، كما يرسل إلى طهران فيقول بأن الرد لن يكون على التحرك الأخير الذي قامت به الميليشيات التابعة لها، بل سيكون في حالة إن تكرر الحادث مرة أخرى، كي لا يبدو أنه يمارس لهجة ترامب الاندفاعية نفسها. وهنا سيعطي فرصة للأجهزة الاستخباراتية كي تنشط في تحديد كل الجهات الفاعلة والمرتبطة بإيران في الساحة العراقية، سواء المعروفة منها، أو التي تعمل تحت مسميات أخرى للتمويه. الهدف من ذلك هو إشراك المجتمع الدولي والحلفاء الإقليميين والأوروبيين، وحتى مجلس الأمن في وقت لاحق، في حالة الحصول على معلومات مؤكدة، تشير إلى أن الفاعل الإيراني هو من يقف خلف هذه الهجمات، وليس تصرفا فرديا قامت به الجماعات المرتبطة به.
الملاحظ أن طهران بدأت ومنذ عام 2019 بالقيام بهجمات على أهداف في المنطقة، تحرص على عدم وضع توقيعها عليها، بمعنى أنها في الأسلوب شائعة في السلوك الإيراني، لكن لا تتبناها أي من الاذرع المعروف علنيا ارتباطها بها فتبقى مجهولة المصدر، أو تتبناها جهات غير معروفة على الساحة. حدث هذا في التعرض على أهداف بحرية في خليج عُمان وقرب سواحل الإمارات، وتعرضات متعددة في الساحة العراقية، استنكرتها طهران وتبرأت منها أذرعها، كما حدث في القصف الأخير على محافظة أربيل. وهي تسعى من خلال اعتماد هذا الأسلوب إلى تشتيت الجهود الاستخباراتية عند الأطراف الأخرى الدولية والإقليمية. ففي الوقت الذي يكون فيه الجهد الاستخباراتي منصبا على متابعة هدف معلوم ومعروفة مواقعه ونشاطاته، يأتي الفعل العسكري من جهة أخرى ليست موضوعة في قائمة الأهداف والاهتمامات المُتابعة.
لقد كان الحديث سابقا أن إيران تقاتل بالغير، وبالواسطة ودائما خارج خريطتها الجغرافية، فإذا ربح هذا الغير تربح إيران، وإذا خسر يخسر هو فقط. وفي كل يوم تؤكد طهران استمرارية هذه النظرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وفي التحليل السياسي تكرار الحدث، خلال مرحلة زمنية يعني هنالك استراتيجية، فإذا كانت هذه هي استراتيجية إيران لتحقيق مصالحها، فما مصلحة العراق في أن يكون صندوق بريد لطهران، وساحة بديلة لصراع مع الآخرين هي تختاره؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية