العراق الى أين؟.. وكيف يفكر بسطاء القوم
د. سعد ناجي جواد
العراق الى أين؟.. وكيف يفكر بسطاء القوم
عتب علي صديق كريم وعزيز قائلا باني لا اكتب كثيرا عن مستقبل العراق، وكان ردي عليه اني أتجنب ذلك لسببين: الأول هو انني لا املك مَلَكَة التنبوء ولا القدرة على معرفة ما يخبئه القدر أو المستقبل لعراقنا الغالي، والسبب الثاني هو انني، واستنادًا إلى المعطيات الموجود على الأرض وما جرى ويجري، اجد ان كل الدلائل تشير إلى ان ما ينتظر العراق بالذات، وربما اجزاء اخرى من المنطقة، هو مصير داكن ومؤلم وقد يكون مأساوي، ولذا فاني لا احب ان اعمم نظرتي المتشائمة. ولكن تردي الأوضاع ووصولها الى هذا الطريق المسدود ربما هو ما دفعني للمحاولة هذه المرة.
أتذكر انني في مقابلة مع صحفي اجنبي في بغداد، في أواخر سنين الحصار الظالمة التي كنا نعيش
تحت وطئتها القاسية، ومع تزايد أصوات طبول الحرب التي كانت تقرع، وبعد ان شرحت له أسباب تشاؤمي مما هو قادم، سالني “الا ترى اي ضوء في نهاية النفق؟” فقلت له نعم يوجد ضوء، ولكن مع الأسف انه ضوء لقطار قادم سريع جدا معطلة فرامله ولا يستطيع التوقف وسيدمر كل ما يصادفه. وهذا ما لا ازال أتصوره فيما يجري في العراق. في نفس السياق سالني صديق عزيز اخر قبل سنة تقريبًا سؤالًا قال فيه “مع كل خبرتك الطويلة ودراستك والتجارب العالمية التي قرات عنها، هل جال في ذهنك انك في يوم من الأيام ستشهد ما يمر به العراق منذ عام 2003 ولحد الان؟” واعترفت له بكل تواضع باني حتى في اكثر ساعات تخيلاتي المجنونة لم اكن لأتصور ولو للحظة واحدة هذا الوضع الماساوي الذي يعيشه العراق الان. ولم اكن لأتصور ان العراق الذي ثار على اكبر دولة استعمارية في عام 1920 ومرغ ابناءه، عربا واكرادا، غطرستها بتراب العراق الطاهر، ان يعود ويُحتَل بعد اكثر من ثمان عقود مرة ثانية وبعد ان ولى زمن الاحتلال الاستعماري المباشر، وان يقف مع هذا الاحتلال ويشجعه عدد غير قليل مِن مَن يعتبرون أنفسهم (عراقيين). ولم اكن أتصور ان العراق الذي كان يمتلك نخبة كبيرة من المثقفين وأكبر عدد من قراء الكتب و ما تنتجه الثقافات العالمية، وخاصة العربية، وحارب كل مظاهر الجهل والتخلف في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ونجح، وبعد ان ناضلت جميع اطيافه على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وقومياتهم وبصورة موحدة ضد الاستعمار والطغيان والتخلف، ينحدر بفضل ثلة جاهلة ومتخلفة وعنصرية، الى الحديث بلغة طائفية مقيتة وشوفينية مُفرِقة.
بالعودة الى الموضوع، وللحديث بصورة مباشرة، فإن ما يجري في العراق الان، أو منذ بداية الاحتلال، لا يبشر بخير البتة، ولعدة أسباب: أولًا ان المجموعة التي تسيطر على المشهد السياسي، وعلى الرغم من فسادها وفشلها ودمويتها، ترفض ان تفسح المجال لوجوه جديدة اكفأ، لا بل انها تصر على فعل كل ما بوسعها من اجل التمسك بالحكم والعبث به؛ وثانيًا ان هذه المجموعة أصبحت تمتلك ثروات هائلة تستطيع ان تستخدمها لشراء الذمم والضمائر المريضة، وما أكثرها، أضف إلى ذلك انها أصبحت تقود تنظيمات مسلحة و مليشيات لا تقوم فقط بالدفاع عنها وإنما ايضا تقوم بتصفية وقمع اي صوت يخالفها؛ ثالثًا والأهم فان هذه المجموعة، (او المجاميع الحاكمة) تحظى بدعم خارجي، إقليمي او دولي، يسند بقائها في الحكم. علما بانه ثبت بما لا يقبل الشك ان الأطراف الخارجية غير مهتمة بمسالة وجود من هو اكفأ في السلطة، المهم لها هو ان من يكون في السلطة، أو من ستدعمه للوصول اليها، يجب ان يخدم مصالحها، ولا يهم ان يكون من يتم اختياره فاسدا أو سارقا أو صاحب تاريخ اسود أو قاتل. وبالتالي فان التعويل على طرف خارجي هو حل لن يعود على العراق والعراقيين بأي خير.
على الجانب الآخر فان التظاهرات السلمية والشعبية، والتي قامت بما هو مطلوب منها وأكثر، من ناحية كسر حاجز الصمت والخوف ورفض وفضح السياسات الطائفية وأسلوب المحاصصة، والمطالبة بمحاربة الفساد والفاسدين بجدية، قد وصلت إلى طريق مسدود تقريبًا، ليس بسبب عقمها، بل بسبب كمية العنف الذي تواجه به وبسبب عدم وجود قوة داخلية لمساندتها، (مثل الجيش او حزب سياسي جماهيري كبير أو نقابات مهنية شعبية كبيرة)، وهكذا نجد ان رغم كل التظاهرات الكبيرة وشعاراتها الواضحة والاحتجاجات والاعتصامات، استمرت الحكومة، والأحزاب التي شكلتها وتساندها، في رفض تلبية ما تطالب به، وتصاعدت وتيرة قتل المتظاهرين بدم بارد او اختطافهم. ووصل الأمر برئيس الوزراء الذي أُجبِرَ على الاستقالة (والذي فشل في فعل اي شيء) ان يبقى متمسكا بمنصبه وممارسة مهامه وكأن شيئًا لم يكن، لا بل انه منح أعضاء وزارته المستقيلة والتي يفترض بها ان تكون وزارة تصريف أعمال، صلاحيات استثنائية، الأمر الذي اشر على ظهور شبهات فساد جديدة.
في ظل هذا الوضع القائم والطريق المسدود لا توجد بدائل أخرى يمكن ان تسر العراقيين سوى الانحدار إلى حرب أهلية داخلية طاحنة وطويلة لا تبقي ولا تذر، او ان يجزأ بلدهم، خاصة وان أطراف خارجية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل تعمل على ذلك وتلوح به، وترحب بهذه الفوضى، بدعوى انها السبيل الأنجح (لمحاربة النفوذ الإيراني)، بينما يبقى هدف هذين الطرفين الحقيقي هو ابقاء العراق مشرذما كي لا يشكل أي تهديد لسياساتهما في المنطقة. وكذلك ترحب إيران بهذه الفوضى على أساس انها الطريق الصحيح لمحاربة الوجود ألأمريكي-الصهيوني في العراق. وانتقل العراق بسبب هذين التفكيرين لكي يكون ساحة صراع بين الطرفين، نتيجته تدمير العراق وقتل ابناءه.
البديل الآخر الذي يمكن ان يصحح الوضع القائم هو ان يتدخل الجيش لصالح المتظاهرين ويزيل الطغمة الحاكمة، ولكن هذا الحل برغم وجود عدد كبير من العراقيين المرحبين به، ورغم إمكانية نجاحه في اقتلاع كل الفاسدين جملة واحدة ومعهم مظاهر الفساد، الا ان نتيجته قد تكون حربا دامية بين الجيش والمليشيات المسلحة العديدة. صحيح ان كل التجارب السابقة المشابهة أكدت، وتوكد ان الغلبة ستكون للجيش المنظم والمدرب تدريبا جيدا، الا ان في حالة العراق فان هذا الحل يبقى غير مضمون وسيقود إلى اقتتال داخلي دامي لسببين: الأول هو ان الكثير من وحدات الجيش غير مدربة التدريب الكافي، والثاني ان قسما من وحداته لاتزال تأتمر بأمر الأحزاب والمليشيات الطائفية ويقودها من يمثلهم، وبالتالي يمكن جدا ان تتبع هذه الوحدات أوامر هذه المليشيات والأحزاب اكثر من التزامها بالانضباط وبالأوامر العسكرية. كما ان هناك مخاطر كثيرة تحيط بهذا الخيار، منها عودة الحكم العسكري الذي قد يولد ديكتاتورية اخرى، ويستبدل فساد بفساد. علمًا بان هذا الحل اذا ما نتج عنه اقتتال داخلي فان قوى مجاورة عديدة سوف لن تتوانى عن التدخل المباشر (مثل ما حصل ويحصل في سوريا وليبيا) خدمة لمصالحها والمكاسب التي حصلت عليها داخل العراق بعد الاحتلال، وقد ينقلب الوضع إلى حروب داخلية متعددة خاصة إذا ما كان تنظيم وتماسك القوات المسلحة ضعيفا.
الاحتمال الثالث والأضعف هو ان يتم اختيار شخص مناسب وكفوء ولديه نفس اصلاحي، من خارج التركيبة السياسية الموجود، ويُعطى الحرية الكافية للقيام بإصلاحات حقيقية. والعقبة الأكيدة التي يمكن ان تعرقل هذا الخيار تتمثل في الكيفية التي ستتمكن من خلالها هذه الشخصية مواجهة حيتان وعصابات الفساد المدعومة بالمليشيات المسلحة؟
وهكدا وحسب هذه المعطيات يمكن القول ان كل الدلائل تشير إلى ان العراق، وفي المستقبل القريب المنظور (عقد من الزمن تقريبا، اقل او اكثر بقليل)، سيبقى يعاني من هذه المخاطر. نعم لقد اثبتت التجارب ان العراق ليس عقيما وسيفرز قيادات قادرة على انتشاله من مآزقه في هذه الفترة، ولكن الخوف كل الخوف يكمن في ان تؤدي المشاكل الحالية والسياسات الفاشلة التي تنتهجها الأحزاب السياسية الفاسدة والمسيطرة على مصير البلاد والمرتبطة بالخارج إلى احداث أضرار يصعب إصلاحها في المستقبل، مثل ان يتم تقسيم البلاد بطريقة أو أخرى، أو ان تُرهن ثرواتها الطبيعية وثروات أجيالها القادمة للخارج لأمد غير محدود، مثل ما حصل مع اتفاقيات الشراكة النفطية (أو ما عُرِفَ بجولات التراخيص)، وعندها ستكون المعضلة ليست البحث عن الإصلاح وإنما عن الكيفية التي يمكن بها اعادة الوحدة الوطنية للبلاد، والأهم إعادة وحدة ترابها الوطني بعد ان تنشأ مصالح داخلية واقليمية تدافع عن هذا التقسيم؟.
بعيدا عن هذه التحليلات فان بسطاء الناس من العراقيين، والذين هم اكثر تفاؤلًا، ويمثلون أغلبية لا يستهان بها، يرددون دائما ان لا داعي للخوف على العراق، لان ارضه الطاهرة تبقى محمية ببركة الأنبياء وآل بيت النبوة عليهم السلام والأئمة الصالحين رضي الله عنهم جميعًا، الذين تنتشر مراقدهم واضرحتهم في كل العراق من شماله إلى جنوبه، وان بغداد وحدها محمية ببركة خمسة أئمة و أولياء صالحين تحيط مراقدهم الشريفة بها من كل جانب، وان هذا هو سبب بقائها شامخة رغم كل ما مر بها من كوارث. وتفكيرهم بل وإيمانهم هذا يجعلهم يطمئنون إلى المستقبل اكثر من المفكرين الذين يحاولون تعقيد الأمور، وكاتب السطور من بينهم. عسى ان يكون تفاؤلهم الغريزي هذا واطمئنانهم الفطري للمستقبل هو النتيجة لما يجري من ماسي!!!