العراق: من ذكريات اليوم المشئوم ٩ نيسان ٢٠٠٣
د. سعد ناجي جواد
العراق: من ذكريات اليوم المشئوم ٩ نيسان ٢٠٠٣
مهما مرت الايام والسنين الا انها لا يمكن ان تمحي من الذاكرة احدث وذكريات هذا اليوم المشئوم، (الاربعاء 9 نيسان/ابريل 2003)، اليوم الذي دنست فيه اقدام الغزاة ارض بغداد الطاهرة. وكلما تحل هذه الذكرى الاليمة يستذكر العراقيون الشرفاء مشاهد تعتصر القلب الما وحسرة.
عندما بدا العدوان كنت خارج العراق، وقررت العودة على الرغم من نصيحة العديد من الاصدقاء ان ابقى في الخارج وانتظار ما ستسفر عنه الامور. الا ان قرار العودة كان هو الغالب. كان السفر الى العراق انذاك لا يتم الا عن طريق البر. وكانت اول المفاجئات في يوم 8 نيسان/ابريل عند الوصول الى الحدود العراقية التي لم يكن فيها سوى شاب واحد لم يكلف نفسه حتى مشقة الاطلاع على جوازات السفر، ونصحنا ان نكون حذرين لان القوات الامريكية كانت تجوب المناطق المحاذية للطريق الدولي غربي الانبار. وللعلم فان طلائع هذا القوات كانت قد انزلت جوا قبل ايام من بداية العدوان للبحث عن منصات صواريخ بعيد المدى خشية ان يطلقها العراق باتجاه اسرائيل كما حدث في عام 1991. ثم ظهر فيما بعد ان كل نقاط الحدود العراقية كانت قد اخليت وظلت سائبة لأشهر مما مكن كل من هب ودب ان يدخل العراق، وكان على راس الداخلين مليشيات مسلحة وافراد المنظمات الارهابية، التي لم تكن تحلم بالتسلل الى العراق قبل ذلك التاريخ. ثم كانت الصدمة الثانية عندما اوقفتنا دورية عسكرية امريكية قبل الوصول الى مدينة الرمادي، وبعد ان اطلعت على جوازات سفرنا سمحت لنا بالاستمرار في المسير. عند الوصول الى اطراف بغداد شاهدت اليات عسكرية عراقية محترقة على جانبي الطريق، وشاهدت جثث بعض الشهداء في داخل احداها. كما لاحظت وجود بعض المقاومين المدنيين في بعض التقاطعات، الذين كانوا يتربصون القوات الامريكية المتقدمة نحو بغداد. اما بغداد نفسها فلقد تحولت اشبه بلعبة الاطفال التي تطلب منك ان تنتقل على الورق من مكان الى اخر وسط طرق تنتهي بكونها مغلقة وعليك ان تعود لتبحث عن طريق سالك اخر وهكذا. في اليوم التالي لوصولي ذهبت الى ساحة الفردوس، حيث يوجد فندقي مريديان-فلسطين وشيراتون-عشتار واللذين كانا يأويان الصحفيين الاجانب، وكنت اعرف بعضهم، وكانوا قد حضروا الى منزلي ليتفقدوني وليجروا معي احاديث صحفية. واجريت حوارا عبر الاقمار الفضائية مع المذيع البريطاني القدير والمعروف (جون سنو) اعدت عليه رايي بان ما يجري هو ليس حبا بالعراق والعراقيين وانما لسببين رئيسين النفط وامن اسرائيل. وبعد ان نقلت له ما شاهدته بتفاصيل، ختمت حديثي بالقول ان ما يجري لا يبشر بخير ابدا.
بعد ان انهيت لقاءاتي مع مراسلي محطات اخرى، وهممت بالخروج من الفندق حدثت جلبة كبيرة اجبرتنا على الوقوف جانبا واذا بافراد من الجيش الامريكي يقتحمون الفندق، وكانت هذه هي الصدمة الاكبر التي اشعرتني بالحقيقة المرة الا وهي ان الاحتلال قد تم فعلا، منظر اعتصر القلب وادمع العين. تركنا الفندق على عجل وشاهدت القوات الامريكية وهي تحيط بساحة الفردوس وتعد العدة لكي تسقط تمثال الرئيس، هذه التمثيلية التي كانت معدة مسبقا. خلال ساعات قليلة تحولت بغداد الى مرتع للمسلحين المنفلتين والسراق الذين لم يتركوا مصرفا او وزارة او دائرة حكومية الا وباشروا في نهبها، (باستثناء وزارة النفط التي حمتها القوات الغازية!). وكان على راس هذه المجاميع المنفلتة مليشيات مسلحة قدمت من الدول المجاورة او من شمال العراق. وكل مجموعة وضعت يدها على منزل مسؤول او دائرة حكومية وجعلت منها مقرا لها وسكنا لاتباعها. وطبعا اصحاب هذه المساكن لم يكونوا ليجرأوا على العودة الى مساكنهم. ثم انتشرت ظاهرة الاغتيالات التي قامت بها هذه المليشيات المسلحة وفرق من مخابرات دول اجنبية، وشملت الاساتذة والعلماء والضباط والسياسيين الذين كانوا مختلفين مع القادمين الجدد. ثم حدثت جرائم كان واضحا ان دول جوار (عربية وغير عربية) قد خططت لها ونفذتها، مثل حرق المكتبة الوطنية وتخريب وسرقة المتحف العراقي ومهاجمة سفارات دول اوربية كانت قد رفضت المشاركة في العدوان. كل هذه الامور حدثت امام اعين القوات الغازية التي لم تفعل شيئا لايقافها او منعها، لا بل ان بعض هذه القوات او من يرافقهم كانوا يلتقطون الصور التذكارية وهم يضحكون. ثم بدات مجاميع المتعاونين مع الاحتلال بالتوافد على بغداد، وكان واضحا من تصرفاتهم ان حب الانتقام والاستحواذ على الممتلكات الحكومية كان هدفهم الرئيس. ولم يظهر اي واحد منهم على مدى شهور لكي يطمئن العراقيين ويخبرهم بان (مرحلة جديدة مشرقة ستبدأ)، كما كانوا يدعون. وكانت اخبار القتل والتدمير تفرحهم والبعض منهم يتبجح بها على اساس ان من تطالهم هذه الجرائم كانوا من (اتباع النظام السابق). وعندما حزنت على اغتيال احد الزملاء وطلبت من باقي الاساتذة ان ننظم وقفة احتجاجية في الحرم الجامعي، (الذي بالمناسبة اصبح لأشهر عديدة معسكرا لبعض وحدات الجيش الامريكي الغازية والتي كانت تخضعنا للتفتيش في الدخول والخروج)، اقول عندما طالبت بوقفة امام ادارة الجامعة عارضني اغلب الزملاء وقال احدهم (ولماذا نحتج؟ الم يكن المرحوم بعثيا؟). هكذا وبكل بساطة اصبح التفكير السائد لدى عدد غير قليل من زملاء المهنة مع شديد الاسف. ثم جاءت القرارات التي عُدّت مسبقا والتي اريد منها تدمير العراق بصورة ممنهجة، مثل حل الجيش واجتثاث البعث وتشكيل جيش من تجميع المليشيات مسلحة وغيرها كثير.
اكثر ماكان مؤلما في تلك الايام هو الانحدار الاخلاقي الذي وصل اليه عدد غير قليل من الناس، من بينهم متعلمين ومثقفين وحملة شهادات عليا. في اليوم التالي للسقوط حدثني شخص اثق به كان يسكن قرب احد القصور الرئاسية، انه شاهد بام عينيه طبيبا شهيرا ومعروفا وصاحب مستشفى يدخل مع الغوغاء والسراق المنفلتين للقصر ويشارك في سرقة بعض محتوياته. وعندما باشرنا الدوام في الكلية بمبادرة شخصية منا كي لا يخسر طلبتنا سنة دراسية، وجدت نفسي امام اشخاص وكاني اراهم لاول مرة، وليس اولئك الذين عشت معهم اكثر من عقدين من الزمن. بدا كل واحد منهم يتبجح بهويته الطائفية وبهويته القومية الضيقة (اذا كان من غير العرب). قلة قليلة فقط حافظت على توازنها.
في اليوم الاول لوصولي للكلية وجدت مجموعة من طلبة الدراسات العليا وحملة شهادة الدكتوراة من الشباب الذين تخرجوا من كليتنا، وكانوا قبل ذلك اليوم يتظاهرون بالادب والاحترام، وجدتهم متجمعين اما مكتب عميد الكلية ويطالبونه بالخروج لكي يعتدوا عليه، وهم نفسهم كانوا قبل ايام ياتمرون باوامره وينفذونها دون نقاش. وعلى الرغم من اني كنت على خلاف مع العميد لاسباب ادارية بحتة، الا انني تصديت لهم وطلبت منهم ان يبتعدوا واخبرت سكرتير العميد، (الذي اغتيل هو فيما بعد لاسباب طائفية)، ان يطلب منه ان يغادر بسلام وبسرعة خشية ان تتعقد الامور، وبقيت واقفا حتى تاكدت انه غادر الكلية. وفي حالة اخرى قام احد افراد هيئة التدريس بجعل مسكنه مقرا لتجمع النماذج المنفلتة من الكلية (طلابا ومدرسين) لكي تجتمع وتخطط للاعتداء او لتشويه سمعة زملاءه من التدريسيين.
بعض من كانوا منتمين لحزب البعث، ومنهم من كان معروفا بكتابة التقارير على زملائه، ولا يهمه في ذلك ماذا ستكون نتائج هذه التقارير، بداوا يتبارون في سرد القصص والحكايات عن (ظلم النظام السابق لهم ولعوائلهم)، وعن بطولات زائفة لم تكن لتقنع احد.
لم يكن كل ما يجري يبشر بخير. بل كانت الدلائل واضحة لكل عاقل ومتبصر (على قلة مثل هكذا اشخاص) ان القادم سيكون كالحا ومؤلما. وهذا الشعور لم يات اعتباطا وانما كان مبنيا على احداث واحاديث القادمين الجدد. فاولا اعتبرت ادارة الاحتلال والمتعاونين معها ان كل من كان موجودا في العراق انذاك هو من اتباع النظام السابق، مهما كانت كفاءته واخلاصه، واعتبرت مكونا كاملا من مكونات الشعب العراقي بانهم بعثيون، وبالتالي فلا يوجد اعتراض على تصفية النموذجين السابقين . وعلى الطرف الاخر فان كل من اتى مع الاحتلال مهما اثير حوله من شبهات فساد وجرائم، كان هو المفضل وله الحق في الحكم. كما اعتبرت ادارة الاحتلال ان العراق (دولة مصطنعة) شكلها البريطانيون بعد الحرب العالمية الاولى، ضاربين عرض الحائط تاريخ هذا البلد العريق الذي يمتد الى الاف السنين. ولم يعد هناك حديث عن عراق وعراقيين، وانما اصبح الحديث عن مكونات. واصبح الحديث الطائفي المقيت والقومي الشوفيني البغيض هو ما يملا اسماع العراقيين عبر وسائل الاعلام، التي لم يعد اغلبها يراعي ابسط المبادئ الاخلاقية والمهنية. واصبح التهديد بالقتل وتنفيذه سمة حل الخلافات واداة للترهيب. احد طلابي القدماء، والذي كان بعثيا وحصل على بعثة دراسية في الخارج، واصبح زميلا، اوصل لي تهديدا مباشرا من احد قيادات الاحزاب الطائفية الجديدة بسبب احاديثي الرافضة للاحتلال، ولما غضبت واخبرته ولماذا لم تقل له باني معروف باستقلاليتي وبانك انت من كان بعثيا، سكت لانه كان قد ربط مصلحته مع تلك الجهة وحصل على منصب مرموق فيما بعد كان يطمح له. واخر غضب مني على الرغم من علاقاتنا الطيبة الطويلة لاني سخرت واستهجنت فكرة جعل يوم الاحتلال عيدا وطنيا، ثم اكتشفت انه ذهب ليخبر احد ممثلي الاحزاب الطائفية الجديدة بما حصل، وهو يعلم ان هذا سيكون بمثابة تحريض علي، والحمد لله ان من سرد له الحادثة كان لا يزال يمتلك بعض الشعور الوطني واتفق مع رايي. اما نهب المال العام وحتى الخاص فلقد اصبح ديدن القادمين الجدد.
ان حدوث الاحتلال جعل البعض (سذاجة في الغالب) يعتقد ان المحتلين سيعمدون الى بناء دولة مرفهة اقتصاديا، تحكمها مباديء الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. وكنت اقول لمثل هولاء البعض ان من اخضع شعبا كاملا لحصار لا انساني قتل ما يقارب من مليوني شخص ربعهم من الاطفال لا يمكن ان يفكر ببناء عراق جديد، وكان البعض منهم يسخر من قولي.
ان ما خفف هول الصدمة من كل النماذج السلبية التي سبق ذكرها، هو انطلاق المقاومة الوطنية التي اثبتت زيف ادعاءات المتعاونيين مع الاحتلال بان العراقيين سيستقبلون الغزاة بالزهور، ونجحت في تكبيد قوات الاحتلال اضعاف اضعاف ما خسرته اثناء الاجتياح والاحتلال، واجبرته على التفكير بالانسحاب باسرع وقت ممكن.
كنتيجة للاحتلال اصبح العراق مرتعا لنفوذ الاطراف الخارجية. بل يمكن القول انه لم تبق دولة مجاورة او اقليمية الا ومدت نفوذها في العراق بطريقة ما. وكل هذه الاطراف وجدت من بين القادمين الجدد او من اصحاب النفوس الضعيفة من ياتمر بامرها ويخدمها ضد مصلحة العراق. وكل ذلك من اجل منع العراق من ان يستعيد دوره العربي والاقليمي المعهود. الانتماء الى العروبة والاعتزاز بها اصبح مدعاة سخرية الاحزاب الطائفية والشوفينية. واعتمد مبدا المحاصصة وغاب مبدا معاقبة القتلة والفاسدين. ونتائج كل هذه السياسات والتصرفات هي من اوصل العراق الى المنحدر الذي يعيش فيه، خزينة فارغة، فساد عام، خراب شامل، حملات اغتيال واختطاف وتغييب مستمرة ومطالبات صريحة بتقسيم العراق.
بعد ياس طويل ظهرت بارقة امل تمثلت في انتفاضة شباب تشرين، التي رغم محاولات تشويهها واختراقها واسكاتها بالاغتيالات والاختطافات، فان جذوتها ما زالت مستعرة، وما زال صوتها يدوي ويجبر الحكام الى الاستماع له. لقد خضع العراق وبغداد بالذات الى احتلالات واجتياحات وتدمير في فترات تاريخية متعددة، ولكن ابناءه الاصلاء كانوا دائما ما يستعيدونه ويعيدون بناءه شامخا من جديد. ورغم كل الظواهر المحبطة فان شباب العراق واجياله القادمة قادرين على فعل ذلك رغم كل العقبات التي تقف امامهم.
سلام عليك يا عراق يا موطن الانبياء والرسل، سلام عليك يا مرقد الائمة الاطهار من كل المذاهب، سلام عليكِ يا ارض الابطال التي انجبت من حرر القدس، سلام عليكِ يا بغداد يا من انجبتي العلماء الذين نوروا للعالم طريقه بكتاباتهم وانجازاتهم العلمية.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) صدق الله العظيم