أما آن لهذا الرجل أن يتخلى عن اللعبة المزدوجة؟
منذ 4 ساعات
أي مراقب للمشهد العراقي يجد وبوضوح أن الممارسة السياسية، التي يضع رجل الدين العراقي السيد مقتدى الصدر ملامحها للتيار الذي يتزعمه، دائما ما تكون مساحة الحركة المخصصة لها هي المنطقة الرمادية. وهذا خلل كبير لمن يخوض غمار العمل السياسي، لأنه شأن عام يمس مصالح الناس والوطن.
وهذه الانكسارات الحادة في مواقف هذا الفصيل السياسي – اللعب ساعة في ساحة العملية السياسية، وساعة أخرى في ملعب الجماهير ـ هو نوع من أنواع الانتهازية السياسية. كما أن التواجد الفاعل في النظام السياسي، بأغلبية برلمانية ووزراء ومسؤولين في الحكومة، ومشاركة في صنع القرار، وفي الوقت نفسه بين الجماهير والطبقات المسحوقة من الناس، على الرغم من التقاطع الحاد بين الشعب والسلطة، يطرح تساؤلات عديدة عن طبيعة المنهج والفكر والوسائل التي يعتمدها الرجل لتحقيق رؤاه السياسية. ولو عدنا قليلا إلى الوراء لاستعراض مواقفه لرأينا تجارب كثيرة تدل على ذلك، آخرها دعوته إلى المظاهرة المليونية، التي حدثت يوم الجمعة الماضية، ثم إعلانه تخليه عن تقديم الدعم للمتظاهرين السلميين في ساحات بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.
لخص السيد مقتدى الصدر دوافع التظاهرة المليونية التي دعا إليها، بما سماه (مباردة لحفظ سيادة العراق). وقد تضمنت جدولة خروج القوات الأجنبية من العراق، ودمج الحشد الشعبي في الوزارات الأمنية. لكننا لم نجد أي إشارة منه إلى موضوع النفوذ الإيراني في البلاد، التي لا تتساوق مع جدولة خروج القوات الأجنبية، لأن إيران ليست جزءا من التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة»، وبالتالي ليست لديها قوات رسمية على الأرض، لكنْ لديها نفوذ أكبر بكثير من الآخرين، من خلال الاحزاب والميليشيات التي تقود العملية السياسية في البلاد.
كما أنه دعا كل فصائل الحشد الشعبي للمشاركة في التظاهرة، في حين أنها متهمة بالتعرض للمتظاهرين السلميين، وقتل وجرح وتغييب الكثير منهم، ولأن التظاهرة المليونية التي دعا لها، والتي كانت بجهد الدولة المادي والمعنوي، قد حاولت تشتيت مطالب المحتجين في ساحات الاعتصام. ومنحت السلطات الحكومية متنفسا من ضغط الشارع. كما أرادت استرجاع صناعة القرار من يده وإعادته إلى زعماء الميليشيات والاحزاب والكتل السياسية. وهذه كلها منسجمة مع المصلحة الإيرانية. فإن كل ذلك يشير إلى أنه يحاول تقديم نفسه إلى صانع القرار الإيراني، على أنه قادر على إنتاج وضع آخر في الأزمة السياسية الحالية، خاصة أن التوابع باتوا في مأزق سياسي كبير، بعد أن ثار عليهم نسيجهم الاجتماعي والطائفي.
إن القراءة المنصفة لطبيعة الحركة السياسية للتيار السياسي الصدري، تشير إلى أن الرجل يريد أن يكون محورا مهما في العملية السياسية وخارجها في آن معا. وهي محاولة مكشوفة للحفاظ على وجوه متعددة، يستطيع من خلالها طرح نفسه على أنه مقبول من كل الأطراف، ومهيأ للعب دور لا يتقاطع مع الآخرين، حتى إن كانت الرؤى فيها متقاطعة ومتناقضة تماما. وهذا الفعل ليس محكوما دائما بمقتضيات المصلحة العامة، بل قد يكون جزءا من التناقضات الموجودة في هذا التيار السياسي. فكيف نستطيع أن نفهم ما يقوله بأنه يشارك في الحراك الشعبي ويحميه، ومن جهة أخرى ينظم تظاهرة من أحزاب السلطة، كل المؤشرات فيها تبين أنه يحاول إرضاء طهران؟ فهنا هو يحاول الضغط على واشنطن لسحب قواتها من العراق، لكن في الوقت نفسه هي محاولة للتغطية على الاحتجاجات المناهضة للحكومة.
وفي موقف آخر، هل يستقيم أن نجده ممثلا في البرلمان بأكبر عدد من النواب، ولديه مشاركة واسعة في المجالس المحلية في المحافظات، وهذه كلها توفر له دعما ماديا ومعنويا كبيرين، لكنه في الوقت نفسه يدعي أنه ضد العملية السياسية، وأن مشاركته فيها نوع من المقاومة الوطنية؟ أليس هو الداعي الدائم للإصلاح، وينتقد ويهاجم الوضع الحالي، لكن كل الذين تتوجه سهامه إليهم هو يجلس إلى جوارهم في المركب نفسه، ويشاركهم السلطة والمناصب؟ هو جزء من العملية السياسية، ومشارك في صنع القرار فيها شاء أم أبى. فهل هي أمية في الوعي السياسي، وعدم القدرة على تلمس الاتجاه الصحيح في الفعل؟ أم أنها محاولة للاستثمار في جميع المجالات للحصول على مكاسب سياسية؟ هنالك حقا إشكالية كبرى في هذا التوجه السياسي. وما مبادرته الأخيرة في التظاهرة المليونية إلا دليل آخر على هوس في الحفاظ على دور الزعيم الشعبوي الإصلاحي، وفي الوقت نفسه المقاوم الراديكالي، كي يجد له مقعدا في الأجندة الإيرانية. فصانع القرار الإيراني اليوم بحاجة ماسة إلى جماهيرية الصدر، لقد أهملوه كثيرا ولفترة طويلة وحان الوقت للاستثمار فيه وجعله قوتهم الناعمة.
إن الاختلاف مع السيد مقتدى الصدر، وتوجيه النقد إلى حركته السياسية، لا يمنع من التنبيه إلى أنه قادر على ضبط بوصلته الوطنية بعيدا عن الآخرين، حتى لو كانت طهران. فكما لهذه مصالحها القومية، فهو الآخر لبلده مصالح قومية أيضا. قد يكون العامل المرجعي الديني أحد العناصر الضاغطة والفاعلة في تغيير مواقفه، وصنع هذه الذبذبة التي نراها في مواقفه. لكن بما أنه قبل أن يكون أحد المتصدين للقضية الوطنية، فعليه توفير الأسس الصحيحة في اتخاذ القرارات في الشأن الوطني. وبعكسه سيكون عرضة للتشويه والظن السيئ بما يقول ويفعل. لذلك وجدنا البعض قد علل هجوم القوات الحكومية على ساحات التظاهر في بغداد والمحافظات، غداة إعلانه تخليه عن دعم المتظاهرين، على أنه اتفاق سياسي معه وإعطاء ضوء أخضر من قبله للسلطات، وهذه خسارة سياسية كبيرة ذات كلف مستقبلية.
إن التيار السياسي الذي يقوده السيد مقتدى الصدر تيار شعبي كبير، وهو قادر على تحشيده والدفع به لتحقيق رؤاه السياسية، لكن ليس من المنطقي أن يكون تحشيد وتجييش الجماهير ومخاطبتهم فقط لقضاء أعمال مرحلية وليست منهجية. كما أن الاعتقاد بأن القائد الشعبوي قادر في كل الاحوال على مخاطبة الجمهور مباشرة ودغدغة عواطفهم والتملق لهم من أجل كسب ودهم، وأن ذلك سيجعلهم يعودون اليه هو اعتقاد خاطئ تماما. كما أنه كارثي حقا عندما يكون الزعيم السياسي يمارس اللعبة المزدوجة في العمل السياسي على حساب جماهيره. يجب أن تكون الاهمية القصوى للفاعل السياسي البحث عن موارد ذاتية يتغذى منها، كي يستطيع تقديم برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع الذي يدعي قيادته.
إن التيار الصدري الذي لم يكن فاعلا في صنع الانتفاضة العراقية، بل التحق العديد من عناصره ومؤيديه وأنصاره فيها بصورة شخصية، بعد أن وجدوها معبرا حقيقيا عن آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم، لن تتأثر بإعلان زعيمهم التخلي عن دعمها. وهذا ما عبر عنه الالتحاق الكثيف بساحات التظاهر من قبل المواطنين في اليوم التالي.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية