هل ستتجرأ حكومة عراقية على إتخاذ قرار بالتطبيع مع اسرائيل؟ وهل سيتحمل من يقوم بذلك ردة الفعل الشعبية في العراق؟
د. سعد ناجي جواد
هل ستتجرأ حكومة عراقية على إتخاذ قرار بالتطبيع مع اسرائيل؟ وهل سيتحمل من يقوم بذلك ردة الفعل الشعبية في العراق؟
تداولت وسائل تواصل موخرا شريطا مصورا يوثق مقبرة الشهداء العراقيين في نابلس والتي تضم رفات شهداء الجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948، ومن اسماء هولاء الشهداء الكرام يستطيع العراقي خاصة ان يكتشف انها تمثل ابناء كل مكونات الشعب العراقي عربا واكرادا وتركمانا مسلمين ومسيحيين وغيرهم. كما تطرق التحقيق الى مقبرة جنين التي تضم عددا اكبر من الشهداء الذين رووا بدمائهم ارضها بعد تحرير جنين وانتزعها من يد العصابات الصهيونية. هذا الامر اثار مرة ثانية ذكريات عن مواقف جيش العراق ورجالاته وسياسيه من قضية احتلال فلسطين. ومن هذه الذكريات والحقائق المشرفة ان العراق ساهم في كل الحروب العربية مع اسرائيل، رغم انه ليس من دول المواجهة، والاهم انه ظل الدولة الوحيدة من بين الدول التي خاضت حرب عام 1948 الذي رفض توقيع اتفاقية هدنة مع الكيان الذي اقيم على جزء من فلسطين المحتلة انذاك، وبذلك ظل يُعتبر رسميا ودوليا في حالة حرب مع الدولة الصهيونية لحد هذه اللحظة. ولم يختلف موقف كل الحكومات العراقية المتعاقبة سواء في ظل النظام الملكي وبعده الجمهوري في ذلك. وكان جيل الضباط العراقيين في تلك الفترة، والذين حكم اغلبهم العراق بعد عام 1958، يفتخرون بما قاموا به من انجازات لقنت العصابات الصهيونية دروسا لم تنساه. وظل ابناء فلسطين من ذلك الجيل والاجيال التي تلته يتداولون قصص ابطال الجيش العراقي مثل عمر علي وعبد الكريم قاسم ورفعت الحاج سري ونجيب الربيعي وعبد السلام عارف وغيرهم كثر. لا بل ان رفعت الحاج سري، والذي كان وراء انشاء اول خلية للضباط الاحرار، وبسبب ايقاف العمليات العسكرية بعد توقيع دول المواجهة الهدنة، ترك بزته العسكرية وارتدى الزي العربي الفلسطيني وبدا بمشاركة الفدائيين الفلسطينين بشن هجمات على العصابات الصهيونية. وموخرا نقل لي صديق حادثة شبه موثقة عن الوصي على العرش الامير عبد الاله، الحاكم الفعلي بسبب صغر سن الملك، والذي اختلف العراقيون حوله كثيرا، تقول انه اتصل بالملك عبد الله ملك الاردن بعد الاعلان عن الهدنة وظل يترجاه لمرات عديدة قائلا (عمي لا تقبل بالهدنة ولا توقعها)، مستندا الى الانتصارات التي حققتها القوات العراقية التي لمسها هو بنفسه ميدانيا عندما زار هذه القوات داخل فلسطين. وكانت النتيجة ان نفذت بريطانيا التي كانت الحاكم الفعلي في العراق والاردن ما ارادت وتم ايقاف العمليات العسكرية وسحب الجيش والقبول بالتقسيم.
ومنذ ذلك التاريخ لم يتخلف الجيش العراقي، وفي كل العهود، عن اي حرب جرت في فلسطين المحتلة او حولها. وهذا ماحدث عام 1967 وعام 1973. وكان له دو ا مشرفا في الاخيرة سواء على الجبهة المصرية او السورية، وسجل له وباقلام اسرائيلية دوره البطولي في دحر تقدم الجيش الاسرائيلي نحو دمشق، وتدمير قوات كان الجيش الاسرائيلي يعتبرها من قوات النخبة واسر قادتها. كما ساهم العراقيون في العمل الفدائي وساندوه على مختلف المستويات. واخيرا وليس اخرا كان القرار الذي اتخذه الرئيس صدام حسين في اطلاق 39 صاروخا على تل ابيب في عام 1991، لكي يكون النظام العربي الوحيد الذي اتخذ مثل هذا القرار الجريء. وهذ الموقف لابد ان يسجل له. ومنذ ذلك الحين اصبح هدف تحطيم وتدمير العراق والجيش العراقي واحدا من اهم اهداف الحركة الصهيونية.
ونظرا لهذا الشعور الوطني العراقي الطاغي، والمرتكز على مباديء الدين الاسلامي الحنيف، ظلت فكرة الاعتراف بهذه الدولة الغاصبة تعتبر واحدة من اكبر الكبائر في السياسة العراقية، إن لم تكن امها. ولم يجروء احدا من ساسة العراق او مِن مَن حكموا هذا البلد حتى على التفكير بها.
مع كل ما قيل اعلاه توجد اشارات تقول ان بعض الحركات السياسية قد تساهلت مع قضية تقسيم فلسطين، او وقعت ضحية لشبكات التجسس الصهيونية. فالحزب الشيوعي العراقي العريق مثلا خسر الكثير من شعبيته عندما رفض ادانة قيام الكيان الصهيوني، لا بل سجل عليه انه اخرج مظاهرات في بغداد تحمل لافتات تقول (نحن بشر)، التي اعتبرت في حينها رفضا غير مباشر للحرب في فلسطين انذاك. ولو ان سكرتير الحزب الاشهر، فهد (يوسف سلمان) والذي اعدمه النظام الملكي، حاول ان يغير من موقف القيادة التي سبقته، وخط منهجا جديدا في رفض الصهيونية، وهو نهج سارت عليه قيادات الحزب بعد ذلك التاريخ حتى بداية القرن الحالي، عندما اختارت قيادة الحزب الموقف المشين المتمثل بالتعاون مع التحالف الصهيو- امريكي لاحتلال العراق.
من ناحية اخرى يسجل للعراق ولاجهزته الامنية الفتية انها كانت في بداية خمسينيات القرن الماضي اول من كشف في كل الوطن العربي دور وفعاليات جهاز المخابرات الاسرائيلي (الموساد) في العراق، وفكك شبكات التجسس الصهيونية هناك. كما ان التاريخ يخبرنا ان الحكومة الملكية انذاك نفذت كل القرارات والاحكام التي صدرت عن المحاكم العراقية التي شملت الاعدام والسجن لفترات مختلفة لاعضاء وقيادات هذه الشبكات. وللتاريخ ايضا فان العصبة التي تشكلت في العراق لمناهضة الصهيونية في اربعينيات القرن الماضي ضمت عددا لا باس به من اليهود العراقيين انذاك.
ومع ذلك ظلت شبكات التجسس الاسرائيلية تنشط في العراق بالتعاون مع نظام الشاه في ايران، وخاصة في مجال تهريب اليهود قبل وبعد حرب 1967 عن طريق المناطق الكردية شمال العراق.
ربما يكون سكرتير عام الحزب الديمقراطي الكردستاني ابراهيم احمد ومعه زوج ابنته جلال الطالباني عضو المكتب السياسي انذاك اول من مد خطوط تواصل مع اسرائيل في عام 1962 بعد قيام الحركة الكرديةالمسلحة. ووصل التعاون بين الطرفين الى حد ارسال مندوبين اثنين من الموساد، تحت غطاء انهم صحفيين من المانيا الغربية انذاك، لدراسة احتياجات الحركة الكردية المسلحة. وتطور الامر بعد ذلك، وبعد ان نجح الملا مصطفى البرزاني من طرد كتلة ابراهيم احمد- جلال طالباني من الحزب والعراق في عام 1964، تحولت العلاقة مع اسرائيل الى القيادة الجديدة للحزب. وتطورت العلاقة من خلال زيادة التواجد الاسرائيلي في كردستان العراق وقيام قيادات الحزب والحركة بزيارات سرية عديدة الى فلسطين المحتلة بعد عام 1967، جرى التكتم عليها بشدة. واول من فضح هذه العلاقة، وهنا تكمن المفارقة، كان جناح جلال الطالباني-ابراهيم احمد في عام 1968، عندما تحالف هذا الجناح مع حكومة حزب البعث التي وصلت للسلطة في نفس السنة. ثم قامت اسرائيل بنفسها بفضح تفاصيل هذه العلاقة. المهم اصبح للموساد مركزا دائما في كردستان العراق ظل حتى انهيار الحركة الكردية في عام 1975، ثم عاد هذا التواجد بعد عودة الحزبين الكرديين الرئسين الى كردستان العراق بعد عام 1991.
بعد الاحتلال، لا بل اثناء الاعداد له انتشرت اخبارا كثيرة عن قيام علاقات بين ما كان يعرف ب (المعارضة العراقية في الخارج) واسرائيل. واصبحت هذه العلاقة شبه علنية. وتبنت الولايات المتحدة وبريطانيا، الدولتان اللتان قادتا حرب الاحتلال، عملية تثبيت تواجد اسرائيلي شبه رسمي داخل سفارتيهما في بغداد. وتبرع بعض قيادات هذه المعارضة بتهريب الارشيف اليهودي العراقي الى اسرائيل وتامين حصول اسرائيل على النفط العراقي باسعار بخسة. واصبح التواجد الاسرائيلي شبه مفضوح سواء في بغداد او في كردستان العراق، وكتب ونشر عنه الكثير، حتى وصل الامر بمحطة البي بي سي البريطانية ان تبث برنامجا كاملا عن التواجد الاسرائيلي في كردستان العراق والتدريبات التي يقدمونها لقوات البيشمركة، وكذلك عن عملية تهريب الارشيف اليهودي الى اسرائيل. ناهيك عن الاعلانات الاسرائيلية الرسمية التي تؤيد انفصال كردستان العراق، ليس حبا بمصالح الشعب الكردي طبعا بل تنفيذا لاجندات صهيونية مبنية على فكرة تفتيت العراق كدولة.
كما اصبحت مسالة المجاهرة والمطالبة بتطبيع العلاقات مع اسرائيل بعد الاحتلال امرا لا يستحي منه من يطالب به، وكل طرف من المجاهرين يعطي تبريرا يناسبه لكي يروج لهذه الفكرة. البعض يستند الى ما اقدمت عليه دولة الامارات على اساس ان هذه الخطوة كسرت الجليد وحاجز الصمت والخوف من ردة فعل وغضب الشارع العربي، الذي كان بالاساس باهتا. والقسم الاخر يستند الى اسباب طائفية بدعوى ان اسرائيل يمكن ان تحد من الخطر الايراني، وقسم ثالث يحاول، كما فعل منذ الاعداد للاحتلال ولحد الان، ان يطبل ويزمر ويروج لما تطرحه الولايات المتحدة من مشاريع على اساس ان اسرائيل اصبحت امرا واقعا وان القبول بوجودها مسالة لا يمكن الوقوف بوجهها، حتى وان كان ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة. ووصل الامر بعد الاحتلال ان يظهر علينا من يجاهر بعلاقته وبزياراته لاسرائيل وبضرورة الاعتراف بها بدون غيرة او حياء وطني او وجل. وكل هذه الامور في حقيقتها تمثل نجاحا كبيرا لاجهزة المخابرات الغربية والامريكية والاسرائيلية في استقطاب هذا الكم الكبير من العملاء المستعدين لخدمة مصالح اسرائيل وتغليبها على مصالح امتهم العربية والاسلامية. ولا احد يسال هذه النماذج سوالا واحدا مفاده: ماذا حققت عمليات التصالح مع اسرائيل للاطراف التي اقدمت عليها؟ او لماذا تصر اسرائيل على التامر واضعاف حتى الاطراف التي تطبع معها، واخر هذه الافعال ما تقوم به من تهديدات للامن الوطني الاردني لاجباره على القبول بصفقة القرن، او ما تقوم به من محاولات لتدمير الاقتصاد المصري والمتمثلة بتفعيل انبوب النفط الاسرائيلي الذي بناه شاه إيران لهم، والممتد من ميناء ايلات الى حيفا للتقليل من اهمية قناة السويس، ناهيك عن تنصلها عن الاتفاقات التي رضيت بها بعض القيادات الفلسطينية التي وصل بها الامر الى حد الاعتراف بالدولة اليهودية. وكان رد اسرائيل هو انها اقدمت على قتل رئيس منظمة التحرير ابو عمار بالسم لانه ظل مصرا على اقامة دولة فلسطينية، ورفضت حل الدولتين.
هناك اشارات كثيرة تدلل ان هناك محاولات خفية تجري الان في العراق لحثه على اتخاذ قرار بالتطبيع. وهناك من يقول ان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد اعطى وعدا بتنفيذ ما طلبه ترامب منه بان يسير في هذا الاتجاه. وهناك من بين المشتركين في العملية السياسية من صرح مرة اخرى علنا بضرورة التطبيع، بعد ان تبجح بزياراته لفلسطين المحتلة. كما ان بعض المحللين فسروا عملية دفع العراق لكي يدخل في تحالف ثلاثي مع مصر والاردن، وهو امر مطلوب عربيا، يمثل مخططا امريكيا- اسرائليا لتطبيع غير مباشر وذلك عن طريق ربط العراق بدولة مطبعة اصلا مع اسرائيل، وخاصة بعد ان تم استثناء سوريا من هذا المحور الجديد. ومن ناحية اخرى فان هناك من يوكد ان التطبيع السري حاصل سواء مع الحكومة المركزية او مع اقليم كردستان العراق. وان التواجد الاسرائيلي في العراق اصبح سرا مكشوفا منذ بداية الاحتلال، وان الامر وصل بالسفارة الامريكية ان ترفع نجمة داود على احد جدران مبناها الضخم للدلالة على وجود قسم خاص للمصالح الاسرائيلية في داخلها، ولم يتم رفع هذا الشعار الا بعد ان اعترض بعض النواب عليه.
بالاضافة الى ذلك هناك من يروج لفكرة ان موجة التطبيع كاسحة ولن يتمكن احد من الوقوف بوجهها، ويقول اخرون ان خروج مصر والعراق من قيادة معسكر الممانعة، وانشغال سوريا بالحرب الدامية التي فرضت عليها، قد قتل روح الرفض للتطبيع، وان لا احد يستطيع الوقوف بوجه قطار التطبيع بعد الان، وكل اصحاب هذه الافكار الانهزامية يبنون تفكيرهم على ما جرى منذ عقود اربعة او خمسة، وتناسوا ان عمر الامم والشعوب اطول من ذلك بكثير، وان كل الحروب الصليبية لم تتمكن من تغيير الطبيعة السكانية لفلسطين، وان مسيرة الحركة الصهيونية لا تختلف عن ذلك، ويكفي ان نقول ان كل الجبروت الاسرائيلي والدعم الدولي الكبير بل والهائل له، وقف ويقف عاجزا عن كسر قدرات المقاومة العربية في غزة وجنوب لبنان التي لقنته دروسا لن ينساها، وهي ما يبقي الامل في النفوس العربية المتمسكة بعروبتها واسلامها وحقوقها المشروعة.
اما في العراق فلقد فشلت الاحزاب السياسية والحكومات التي اتت مع الاحتلال وحكمت باسمه في تحقيق اي مكسب للشعب العراقي، ناهيك عن الفساد الكبير الذي اتصفت به تجربتها والذي افلس الخزينة وافقر العراقيين وتسبب في قتل اكثر من مليون شخص منهم. واذا ما اقدمت هذه الاحزاب على التطبيع والاعتراف باسرائيل فانها بالتاكيد ستدق المسمار الاخير في نعشها.