ثورة تونس: هل قتلت الديكتاتور في عقل الحاكم العربي؟
منذ ساعتين
«الشعبُ يُريد إسقاط النظام» شعار لم نكن نسمع به قبل عام 2010، وربما كان الكثيرون لا يتصورون أنهم سيسمعونه يوما. لكن هل فعلا سقط النظام؟ ما هي نتائج ذلك السقوط على من أشعل الثورة؟ وهل تحرر الإنسان العربي من عقدة الخوف من الديكتاتور؟ أم أن الطغاة أدركوا المأزق فتحصنوا للمقبل؟ وما هي صورة تونس أم الثورة بعد 10 سنوات؟
قبل عشر سنوات فتح البوعزيزي كوة الأمل لنا جميعا، فأحرق نفسه ليس لأسباب سياسية، بل لسبب اجتماعي يتعلق بكرامته وكرامتنا. كان فعله شرارة وتفجيرا ذاتيا لإثارة الانتباه إلى واقع لم يعد مقبولا. كان وخزا مؤلما للضمائر كي تصحو وترى ما حولها. فالوحيد في هذا العالم هم نحن العرب، الذين لم نلحق لا بالموجة الديمقراطية الأولى ولا الثانية، ولا حتى الثالثة، التي بدأت في جنوب أوروبا، في إسبانيا والبرتغال اللتين تحولتا من أنظمة عسكرية إلى ديمقراطية، وانتقلت إلى أمريكا اللاتينية ومن بعدها إلى أوروبا الشرقية. هذا التأخير في دمقرطة المجتمع العربي، كانت مخططة لأن الغرب كان يرى أن الطغاة العرب هم قادة المجتمع، وكان أمامه خياران لا ثالث لهما، خيار استمرار الاستبداد، وخيار الفوضى العارمة، فكان أن اختار الاستبداد. ولتلميع الصورة أوعز للمستبدين بوضع برامج انفتاح اقتصادي وليس سياسيا. ونشأت برلمانات شكلية، وتراجعت السلطة إلى جمهوريات وراثية، وهنا فهم الطغاة العرب أنه كي تكون سلطاتهم قوية، يجب عليهم التحكم بوعي الناس وإراداتهم، لذلك اكتسبت السلطة العربية طابعا خفيا لاعقلانيا، فأصبحت سلطة من أجل التسلط، لذلك اعتبر العنف الذي كان يمارسه على المجتمع عدالة، وكان كل يوم يزيد من ظلمه وقسوته، للحفاظ على نظامه على حساب العدالة، لذلك كان رد فعل المضطهدين والمحرومين رفضا تاما لهذه الأنظمة.
- اقتباس :
- التغيير مسألة تاريخية لا يمكن قياسها بعشرية، لأنها صراع جيلي طويل. كما أن الوضع العربي ليس وليد اليوم بل يمتد لعشرات السنين
فاجأت الثورات العربية النظام العربي والغرب كذلك، وحاولا التأقلم معها وتجيير هذه التغيرات لصالحهما، لذلك رأينا كيف أن موفد الرئيس الامريكي السابق أوباما إلى مصر قال إن مبارك يجب أن يبقى في السلطة، وفي اليوم نفسه قال أوباما شخصيا على مبارك أن يرحل، ثم ركزوا على الجيش المصري بعد الثورة، لماذا؟ لأنهم يضعون سنويا أكثر من مليار دولار في مؤسسة الجيش، لكن الغرب استطاع التأثير في الثورات بواسطة دول تتحالف معها في المنطقة، فحولتها إلى اشتباكات مذهبية وعرقية وقومية في بعض الدول العربية، بسبب الاستفزاز المسلح للقوى الثائرة. كان الهدف هو إيقاف مسيرة الثورات ومنع انتشارها في بقية الدول العربية، لأنهم يعلمون بأن شباب الثورة كانوا يستهدفون تغيير كل الرموز التقليدية القبلية والعسكرية والمدنية المتسلطة. وقد أدى رفض القوى الإقليمية والدولية للثورات التي حصلت، إلى اعتماد تسويات ردا على مشروع الثورة، لصالح أطراف أخرى كي تحقق بها تلك القوى مصالحها. كما أن هذه القوى لم تسمح للثورات العربية، التي نجحت في بعض الأقطار العربية، أن تأخذ مداها الاقتصادي والاجتماعي، خوفا من تأثير ذلك في الرفاه الاقتصادي الداخلي لديها، لأن هنالك علاقة بين الرفاه في الدول الكبرى والموارد التي تأتي من المنطقة العربية. إن التساؤلات التي تطرح اليوم بعد العشرية التي مرّت على الثورات العربية كلها معقولة. ويمكن فهم الأصوات التي تقول بأن جردة الحساب في ما تحقق، وما لم يتحقق متجهة أكثر نحو مؤشرات سلبية، لكن ما يجب فهمه، أن التغيير مسألة تاريخية لا يمكن قياسها بعشرية، لأنها صراع جيلي طويل. كما أن الوضع العربي ليس وليد اليوم، بل يمتد لعشرات السنين. صحيح أن سقوط الحاكم بثورة شعبية حدث تاريخي، لكن لا يعني بالضرورة أن تنتهي الأمور نهاية سعيدة، بل إن أي ثورة يكون مصيرها الفشل، ولن يكون هنالك تغيير حقيقي ما لم يتم تفكيك البنى والمؤسسات القديمة، وظهور قوى سياسية جديدة على الساحة، قادرة على قيادة عملية التغيير، لذلك لم يتخيل الذين ثاروا واحتلوا سجن الباستيل الرهيب عام 1780 أن نابليون بعد عشر سنوات سيخطف الثورة منهم. ولم يتخيل شباب مصر أن يعود النظام نفسه، بعدما لم يتغير سوى عشرين شخصا هم مبارك وزوجته وأولاده. لكن الإيمان يجب أن ينطلق من حقيقة أن بذور التغيير في المجتمع العربي باتت مزروعه في نفوس الملايين، وأن الصنم الديكتاتور قد مات في عقل الحاكم العربي، بعد أن بات اليوم مسكونا بالخوف من ثورات مقبلة. فقد ظن أن موجة الثورات في الاعوام 2010 و 2012 قد انتهت، لكنه صُدم بالموجة الثانية في العام الماضي 2019 في العراق والجزائر والسودان ولبنان، وبات موقنا أن مسار التغير مقبل إليه. كما أن عدد مؤيدي التغيير يزداد يوما بعد يوم وإذا لم يحدد الطغاة العرب منظومة لاستيعاب المطالب فإن الاتي أعظم. المشكلة التي واجهتها الثورات العربية، هي عدم توفر العامل الذاتي الذي يقودها، فتبلور هذا العامل خلال الثورة على شكل ما سمي أصدقاء سورية وأصدقاء ليبيا، وكلها مدعومة من الغرب. كما أن الثورات التي نجحت غيّرت القيادات لكنها لم تغير المنظومة. في مصر تغير رأس النظام وبقي النظام، وفي ليبيا تغير النظام لكن القوى الجديدة تحاول السيطرة على مؤسسات الدولة، كما هو الحال في تونس. لكن التجربة التونسية الدستورية والسياسية مازالت ناجحة، مع أنها تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية صعبة بسبب شح الموارد، لكن هذه التجربة يمكن أن تعطينا نموذجا في التعايش والتوافق، وفسحة من الحريات والالتزام بالدستور. صحيح أن المواطن التونسي مازال يلمس أن شيئا لم يتغير بسبب عدم وجود تنمية اقتصادية، لكن ما تحقق على صعيد الدستور والحريات والمؤسسات على قدر كبير من الأهمية. وهو يشكل إطارا مهما للنهوض المستقبلي في المجالات الأخرى، كما يشكل واقعا نظريا لموضوع التغيير في العالم العربي. فقد كانت التضحيات في إسقاط النظام في التجربة التونسية قليلة، وكان لدى المجتمع وعي سياسي كاف، كما أن التغيير حصل بإرادة التوانسة وليس الخارج،، لذلك كانت الولادة سهلة يسيرة، بينما في ليبيا كانت التضحيات كبيرة ووجود تدخل أجنبي، فكان من الطبيعي أن يأتي الكثير يطالبون بحصصهم ودمائهم. كما أن خريطة الطريق كانت واضحة جدا في تونس، بينما لم تكن كذلك لا في مصر ولا في ليبيا ولا سوريا. وهذه كلها مؤشرات مهمة للثوار العرب الذين يأملون التغيير.
كانت الثورة التونسية خلاصة رغبات أجيال عربية في حلم التغيير من المحيط حتى الخليج. كانت صوتا مدويا يعيد الثقة بالنفس بعد سلسلة طويلة من الهزائم على كل الأصعدة في الحياة العربية، كما كانت تغيرا محلي الصنع، وليس وفق ما تقتضيه مصالح القوى الإقليمية والدولية، وما تتطلبه رسم الخرائط الجيوسياسية في العالم من تغيرات، لكن يبقى المواطن البسيط المسحوق يبحث عن الرؤية الاقتصادية القادرة على العبور به إلى شاطئ العيش الكريم، والتخلص من التهميش، الذي كان أحد الأسباب العميقة للثورة. وللاسف هذه المخاوف مازالت تغذيها حالة الانقسام السياسي، مع صعود تيارات شعبوية وعودة الاستقطاب في المجتمع التونسي بين التيارات الشعبوية.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية