التشكيلي العراقي جعفر طاعون… صفاء التوجه لعالم شيّده بنفسه
منذ 4 ساعات
جمال العتّابي
0
حجم الخط
ما يزال التشكيلي جعفر طاعون يمارس تواصلاته الوجدانية مع أعماله الفنية، كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة، أوليسَ هذا قدر الفنانين؟ ماداموا يسهمون في بناء الوجدان للوصول إلى نقطة الاتقاد في ما نراه، وهو يجري في توازٍ تام مع طبيعة حياتنا التي تحتدم بالصراع، روحاً ونفساً وهوىً، ينتهي بها إلى أن تؤلف معه مثل هذا التجاسد الصافي والتواصل الروحي الحميم .
يظل الرسم فنا بصريا في المقام الأول، والفنان الذي يرفض أن يشاهد، لا يقدم لنا في النهاية إلا فناً فقيراً، وجعفر طاعون لا يستبعد من مجال موضوعاته، العوالم المتخيلة كعوالم الأحلام والخيالات والأساطير، ما يكـــــون بالنســــبة للفنان مرئياً كالعالم الموضوعي تماماً، ومثل هذه الأحلام والرؤى إنما تفرض وجودها أحيانا بشكل لا فكاك منه، على أن الشرط اللازم حتى تصلح الرؤيا أو الحلم موضوعياً جاداً للفن، هو أن يراها الفنان رؤية حقيقية، وأن يبصرها جيداً، ويلاحظها بكل دقة، وبكل ما للتجربة الواقعية من رد فعل عاطفي .
مازال جعفر طاعون منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1988، وهو يواصل نشاطه التشكيلي في ضجة الأساليب الشابة الجديدة، في امتلاك ناصية الفن الكرافيكي، إسلوباً وفكراً وتقنيات، وهي مرحلة ظلت ملازمة لأعماله، منحته صفاء التوجه الكامل لمشروعه الفني وأسلوبه الخاص في المشهد التشكيلي .
ما يؤكد ما ذهبنا إليه هو أن جعفر فنان مثابر ومجتهد، يؤكد هذا القول مشاركته الواسعة في معارض الرسم، فضلاً عن معارضه الخاصة، التي أقامها داخل الوطن وخارجه، وقد أتاحت إقامته في بلد مثل السويد فرصة الاطلاع والتأثر بالتجارب الفنية الجديدة، واستلهام معطياتها، فوجدنا في أغلب أعماله خلاصة المواقف والتجارب والمحاولات إزاء الزمن والزمن المضاد، الحياة والموت، الحب والجمال، حضور الإنسان واختفاءه، وتبعاً لتواصلاته تبدلت رؤيته للأشياء التي أحاطت به، وموقفه من العالم المحيط، وهي المعاني التي ما زالت تؤلف مصادر إيحاءاته الفنية، بل مصادر طاقاته الإبداعية، وهكذا بات ينظر للكون كبيضة (عنوان إحدى معارضه) بمشاركة أكثر من مئة طفل، إنه يتأمل حياة الإنسان في جزء صغير منه، بشكل مغاير، أن يضع خطاً فاصلاً بين النهاية القصوى لعصر ذاهب، وآخر يشكل البداية لعصر جديد، ثم يبدأ رحلة البحث عن موقع في العالم يستطيع أن يؤكد إلفته، بما استنبط من كشوفات، يمكن أن تقوده إلى إدراك الوجود في مجمله، بدلاً من الاستسلام للمألوف والتجزؤ.
يعود جعفر في أعماله الفنية إلى العالم الداخلي للإنسان، وقد أخذته تجاربه في هذه الموضوعات إلى أعماق الطبيعة الإنسانية الداخلية، منظوراً إليها من زاوية التأمل الذاتي الخالص، وهو ما يعود إلى طبيعة النفس البشرية ذاتها، وما يغلف أعماقها من غموض، وتوصل بفعل الألوان المتضادة، والمعتمة في أغلب الأحيان، والتركيز الضوئي في بقعة صغيرة من مساحة اللوحة، إلى لغة تعبيرية ليست مطلقة، إن فهم هذه اللغة التي تبدو متداولة أحيانا، محاولة لتدريب الرؤية الإنسانية، إذ تتحول من نظرة شخصية منعزلة، إلى نظرة اجتماعية شاملة، يحاول الفنان جعفر أن يقرّب المسافات، بين وطن لا يريد أن يستبدله، وآخر يضرم فيه نار الحنين، فذهب يبحث عن مصدر جديد للرؤية، عن الجانب الإنساني الغائب في هذا العصر، معتمداً على آلية الحركة ولعبة التوازن بين الأشكال، واستعان بعناصر متنوعة ليضيف تشكيلاً جديداً في أعماله الفنية.
- اقتباس :
- تجربة جعفر صورة من معاناة التشكيل والرؤية، وإن خضعت لتأثيرات تشكيلية متضاربة، مع ذلك تحمل أعمال طاعون رموزها وحيويتها، الوطن وأمكنته، والاستلاب والقهر.
من مهمة الفنان أن يرتب فوضى العالم المرئي في أنماط وأشكال حسب رؤاه، وما من شك أن الفنان تجذبه بعض المظاهر أكثر مما تجذب غيره، ويوحي بأحاسيسه ومعانيه المختلفة عند الآخرين .أغلب الأحيان أن أولئك الذين يقرأون اللوحة الفنية، هم الذين لا يقرأون عناوين تلك اللوحات في المعارض الفنية، وأعمال جعفر من هذا النمط في الأعمال، التي تطرح مشكلة الفنان وقضيته، إذ يحاول أن يعبر عن ذلك، من خلال البناء والإسلوب، وهكذا تصبح اللوحة هي الوسط الذي يفصح عن لغة الحوار الداخلي الصامت، الذي ينشأ عادة بين رؤيتين، رؤية المتلقي ورؤية الفنان، ما دام لكل فنان مفرداته الفنية الخاصة. يسعى جعفر طاعون في أغلب أعماله إلى تكرار (فيكرات) اللوحة، كما لو كانت مشهداً واحداً في عدة طبعات، تختلف من طبعة عن الأخرى، وهو يحاول أن يوفق بين العديد من الوقائع والمفاهيم والانطباعات والأحاسيس المتضاربة، أعني كيفية تمكن المتلقي من أن يواجه العالم، بدون أن يفرّقه طوفان الظواهر الطبيعية، التي لا ينشغل جعفر كثيراً بمشاهدها، وتلويناتها، وما من شك أن كل فنان تشكيلي تجذبه بعض الظواهر أكثر مما تجذبه غيرها، ومن ثم يوحي ببعض المعاني والأحاسيس المختلفة، ما يوحي به في الآخرين، إنها امتداد لروحه ووجدانه. أن يجمع بين الذاتي والموضوعي، فالفنان عندما يكون حزيناً أو يائساً، فالوجود كله قاتم الألوان، حتى مع سطوع الشمس. قد يكون هذا مصدر ضعف اللوحة في التعبير، لكنه أيضاً مصدر قوتها وجمالها. إن عالم تجربة جعفر على ما يتكشف لحواسنا، هو على الدوام مشوش ومضطرب بادئ ذي بدء، وعلينا أن نسعى إلى التوفيق توفيقاً مفهوماً بين عديد من الانطباعات، أو الأحاسيس المتضاربة، أعني بكيفية تمكن الإنسان من أن يواجه العالم، بدون أن يغرقه طوفان الظواهر الطبيعية، إن الوجود لابد أن يعاد تشييده كل ساعة.
في أعمال جعفر نبرة صوفية مضيئة تتصاعد من الداخل، يحاول فيها أن يستعيد حريته في التأمل، فيقوم بعملية تركيب وتشكيل الصورة، وهي عملية تأليف مفردة وجماعية في آن واحد، أما دور المتلقي فإنه يحلل ويفسر، ولابد من توفر شرط الحرية، ليتمكن من التوصل إلى فهم لغة الفنان في التعبير، وهو يرسم عالماً غامضاً وصامتاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً في وضعيات مختلفة، متقابلة، متعانقة، متباعدة، أو متناثرة، تبوح بالخفاء، وتغري بالتطلع إلى ما ستفعل، تمتلك لحظتها العابرة، مرسومة بالتوق للمجهول، محجوبة غير مكشوفة، تتوهج تارة، وتنطفئ تارة أخرى، تزهر هنا، وتشعّ هناك، تختفي في الضوء وتولد في الظلمة. هذا ما دأب عليه جعفر في أعماله الأخيرة، بإسلوب ابتدعه، يستطيع حمل أعلى طاقة روحية ممكنة في داخله. ويبدو لمتابع أعماله أنه أزاء أعمال تبلورت تجربة فأخرى، واكتملت عناصر الشكل الفني لديه صياغة فصياغة، اجتمعت مكوناتها ومفرداتها وبناءاتها ومساحاتها، كوحدة مشحونة بقيمة بنائية متصاعدة تقذف المتلقي في أتون الحركة، حتى ليبدو أن الفنان في صنعته وتقنيته خلال اللون، قد امتلك أرض الصياغة متوغلاً في حرفيتها، إلى حد إخضاع ناصيتها للتعبير الفني.
من هنا تبدو تجربة جعفر صورة من معاناة التشكيل والرؤية، وإن خضعت لتأثيرات تشكيلية متضاربة، مع ذلك تحمل أعمال طاعون رموزها وحيويتها، الوطن وأمكنته، والاستلاب والقهر. جعفر طاعون، في بحث دائب عن الأشواق والعذابات والأحلام، وجدهُ بالحياة يقوده عبر لوحاته إلى العالم الأرحب، وإن توقفنا عند ألوان متعارضة، فإنها في النهاية تصبح صوتاً واحداً وعالماً شيده لنفسه، ليكون جزءاً من حياته، وجد له الكثير من المسوغات ليصبح في وضع يقنع به الآخرين، بأنه إنما يفعل ذلك ليشركهم معه في فرحة الخلق كما هو شعوره أزاء ما يفعل، وهكذا يصبح الصدق، ليس هدفاً في ذاته لدى الفنان، إنما سبيله للوصول إلى أعمق اللحظات التي تسكن فيه، ولم يجد مناصاً في التعبير، إلّا في الانشغال اليومي المستمر في رصد التحولات والمتغيرات، في أحداث الوطن والعالم، متفاعلاً معها، ومتأثراً بها، وهو طريق صعب انتسب إليه في كل موضوعات أعماله الفنية، في زحمة الحياة التي يعيشها، ليجد عالمه البديل عن وطن بعيد التناول .
هذه التجربة وغيرها من التجارب الناضجة والمتقدمة للتشكيليين العراقيين في خارج الوطن، تدعونا إلى الوقوف عندها بتقدير واحترام، فهؤلاء المبدعون دفعت بهم الظــــــروف القاسية إلى الاختيار الصعب (الغربة)، وغـــــادروا البلد مكرهين، لكن الوطن بالنسبة لهم مثل الشهيق، ورغيف الخبز، من الإنصاف أن لا نتناساهم ليلحق بهم حيف جديد، المسؤولية المهنية والوطنية والجمالية أن نعرّف أبناءنا بتجاربهم الغنية، فهي مشاريع فنية تمزج بين الحب والحزن والأمل والاكتشاف، تحملنا بدون الانقطاع عنها، بتسليط الضوء عليها حيث ما أمكن.
٭ كاتب عراقي